{ 27 - 33 ْ } { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ْ }
أي : فلما تعلت مريم من نفاسها ، أتت بعيسى قومها تحمله ، وذلك لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها ، فأتت غير مبالية ولا مكترثة ، فقالوا : { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فًريًّا ْ } أي : عظيما وخيما ، وأرادوا بذلك البغاء{[503]} حاشاها من ذلك .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة ؛ مشهد مريم عندما جاءت بوليدها إلى قومها ، وما قالوه لها ، وما قاله وليدها لهم . .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك فيقول : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا . . . } .
وقوله - سبحانه - : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ . . . } معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة .
والتقدير : وبعد أن استمعت مريم إلى ما قاله ابنها عيسى - عليه السلام - اطمأنت نفسها ، وقرت عينها ، فأتت به أى بمولودها عيسى إلى قومها . وهى تحمله معها من المكان القصى الذى اعتزلت فيه قومها .
قال الآلوسى : أى : جاءتهم مع ولدها حاملة إياه ، على أن الباء للمصاحبة ، وجملة { تَحْمِلُهُ } فى موضع الحال من ضمير مريم . . . وكان هذا المجىء على ما أخرج سعيد بن منصور ، وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها . . .
وظاهر الآية والأخبار " أنها جاءتهم به من غير طلب منهم . . " .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله قومها عندما رأوها ومعها وليدها فقال : { يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } .
أى : قالوا لها على سبيل الإنكار : يا مريم لقد جئت أى فعلت شيئاً منكراً عجيباً فى بابه ، حيث أتيت بولد من غير زوج نعرفه لك .
والفَرِى : مأخوذ من فريت الجلد إذا قطعته ، أى : شيئاً قاطعاً وخارقاً للعادة ، ومرادهم : أنها أتت بولدها عن طريق غير شرعى ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } ويدل على أن مرادهم هذا ، قولهم بعد ذلك : { يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } .
يقول تعالى مخبرًا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك ، وألا تكلم أحدًا من البشر فإنها{[18778]} ستكفى أمرها ويقام بحجتها{[18779]} فسلمت لأمر الله ، عز وجل ، واستسلمت لقضائه ، وأخذت ولدها { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } فلما رأوها كذلك ، أعظموا أمرها واستنكروه جدًّا ، وقالوا : { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } أي : أمرًا عظيمًا . قاله مجاهد ، وقتادة والسدي ، وغير واحد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سَيَّار{[18780]} حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا أبو عمران الجَوْني ، عن نوف البِكَاليّ قال : وخرج قومها في طلبها ، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف . فلم يحسوا{[18781]} منها شيئًا ، فرأوا{[18782]} راعي بقر فقالوا : رأيت فتاة كذا وكذا نَعْتُها ؟ قال : لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط . قالوا : وما رأيت ؟ قال : رأيتها{[18783]} سُجَّدا نحو هذا الوادي . قال عبد الله بن أبي زياد : وأحفظ عن سيار أنه قال : رأيت نورًا ساطعًا . فتوجهوا حيث قال لهم ، فاستقبلتهم مريم ، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها ، فجاءوا حتى قاموا عليها ، { قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } أمرًا عظيمًا .
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت ان الله سيبين عذرها أتت به تحمله من المكان القصي الذي انتبذت فيه ، وروي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به . و «الفري » العظيم الشنيع ، قال مجاهد والسدي ، وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية ، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت الأديم للإصلاح وليس بالبين ، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري بمعناه بعمل عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل ، و «الفري » من الأسقية الجديد ، وقرأ أبو حيوة «شيئاً فرْياً » بسكون الراء .
دلت الفاء على أنّ مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلّمها ابنها . وفي إنجيل لوقا : أنها بقيتْ في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يوماً ، وهي أيام التطهير من دم النّفاس ، فعلى هذا يكون التّعقيب المستفاد من الفاء تعقيباً عرفياً مثل : تزوّج فوُلد له .
و { قَوْمَهَا } : أهل محلتها . وجملة { تَحْمِلُهُ } حال من تاء { أتت . } وهذه الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها ممّا يُتهم به مِثل من جاء في حالتها .
وجملة { قالُوا يامَرْيَم } مستأنفة استئنافاً بيانياً . وقال قومها هذه المقالة توبيخاً لها .
وفَرِيّ : فعيل من فَرَى من ذوات الياء . ولهذا اللفظ عدّة إطلاقات ، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء ، قاله مجاهد والسدّي ، وهو جاءٍ من مادة افتَرى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذباً . ومنه قوله تعالى : { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } [ الممتحنة : 12 ] .
ومن أهل اللغة مَن قال : إن الفريّ والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز ، وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه ، تفرقة بين أفرى وفَرى ، وأن فرى المجرد للإصلاح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأتت به قومها} بالولد، {تحمله}، إلى بني إسرائيل في حجرها... {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا}، يقول: أتيت أمرا منكرا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما قال ذلك عيسى لأمه اطمأنت نفسها، وسلّمت لأمر الله، وحملته حتى أتت به قومها...
وقوله:"قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا" يقول تعالى ذكره: فلما رأوا مريم، ورأوا معها الولد الذي ولدته، قالوا لها: يا مريم لقد جئت بأمر عجيب، وأحدثت حدثا عظيما... عن وهب بن منبه، قال: لما رأوها ورأوه معها، قالوا: "يا مريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا": أي الفاحشة غير المقاربة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأتت به قومها تحمله} أي بعيسى {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا} قال أبو بكر الأصم: لقد فريت عظيما من الأمر. لكنه يخرج تأويله: فريت من التقدير؛ يقال: فري أي قَدَّرَ، وقال بعضهم: لقد افتريت عظيما، وهو قذف صريح بالزنى كقوله: {يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} (الممتحنة: 12). وقال بعضهم: {شيئا فريا} كل قائم من عجب أو من عمد فهو فَرِيٌّ. وهو هاهنا: عجب فَرْيُ. هذا أقرب، إذ لا يجوز أن يُحمل كلامهم على تصريح القذف. ثم لتعريض القذف مساغ ووجه، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفريّ: البديع، وهو من فري الجلد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت ان الله سيبين عذرها أتت به تحمله من المكان القصي الذي انتبذت فيه، وروي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به. و «الفري»: العظيم الشنيع... وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فأتت} أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها، وزال حزنها، وأتت {به} أي بعيسى {قومها} وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه {تحمله} غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل: فما قالوا لها؟ فقيل: {قالوا يا مريم} ما هذا؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم {لقد جئت} بما نراه {شيئاً فرياً} فظيعاً منكراً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلنشهد هذا المشهد المثير: إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم -ويبدو أنهم أهل بيتها الأقربون في نطاق ضيق محدود- وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة.. يرونها تحمل طفلا!...إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب: (يا مريم لقد جئت شيئا فريا) فظيعا مستنكرا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دلت الفاء على أنّ مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلّمها ابنها.
و {قَوْمَهَا}: أهل محلتها. وجملة {تَحْمِلُهُ} حال من تاء {أتت.} وهذه الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها ممّا يُتهم به مِثل من جاء في حالتها.
وجملة {قالُوا يامَرْيَم} مستأنفة استئنافاً بيانياً. وقال قومها هذه المقالة توبيخاً لها.
وفَرِيّ: فعيل من فَرَى من ذوات الياء. ولهذا اللفظ عدّة إطلاقات، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء، قاله مجاهد والسدّي، وهو جاءٍ من مادة افتَرى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذباً. ومنه قوله تعالى: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} [الممتحنة: 12].
نعجب للسيدة مريم، فبدل أن تخجل مما حدث وتستتر بوليدها عن أعين الناس، أو تنتقل به إلى مكان آخر في فيافي الأرض إذا بها تحمله، وتذهب به، وتبادر به قومها، وما كانت لتفعل ذلك وتتجرأ عليه إلا لثقتها في الحجة التي معها، والتي ستوافيها على يد وليدها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وجاءت إلى أهلها، لتواجه التجربة القاسية المريرة، ولتكسر الحاجز النفسي الذي يحول بينها وبين العودة إلى المجتمع، ولكن من مركز القوّة التي أمدّها الله بها، في ما يبرئ ساحتها، ويظهر طبيعة المسألة، ويحلّ الإشكال العالق بالأذهان. {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} وكانت المفاجأة الكبرى لديهم، وبدأ التساؤل لمن هذا الولد الذي تحمله العذراء؟ هل من المعقول أن يكون ولدها، وهي العفيفة الطاهرة التي عاشت حياتها في المحراب، في عبادةٍ خالصةٍ لربها؟! كيف حدث هذا؟ وانقطع الشك باليقين، وبدأ الهجوم. {قَالُواْ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} عظيماً لما توحي به ولادة هذا الصبي من حدث خطير بمستوى المعصية الكبيرة، وهو أمر لا يصدق لولا أن الواقع يؤكِّده بقوة،