وقوله - سبحانه - : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ . فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } إضراب انتقالى آخر ، من بيان شدة تكذيبهم للحق ، إلى بيان القرآن الكريم هو كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
أى : ليس الأمر كما قال هؤلاء المشركون فى القرآن من أنه أساطير الأولين . . بل الحق أن هذا القرآن هو كلام الله - تعالى - البالغ النهاية فى الشرف والرفعة والعظمة .
وأنه كائن فى لوح محفوظ من التغيير والتبديل ، ومن وصول الشياطين إليه . ونحن نؤمن بأن القرآن الكريم كائن فى لوح محفوظ ، إلا أننا نفوض معرفة حقيقة هذا اللوح وكيفيته إلى علمه - تعالى - ، لأنه من أمر الغيب الذى تفرد الله - تعالى - بعلمه . . وما قيل فى وصف هذا اللوح لم يرد به حديث صحيح يعتمد عليه .
{ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } أي : هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل .
قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا قُرَّة بن سليمان ، حدثنا حرب بن سُرَيج{[29939]} حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك في قوله : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } في جبهة إسرافيل{[29940]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح : أن أبا الأعْيَس - هو عبد الرحمن بن سَلْمَان - قال : ما من شيء قضى الله - القرآن فما قبله وما بعده - إلا وهو في اللوح المحفوظ . واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل ، لا يؤذن له بالنظر فيه .
وقال الحسن البصري : إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه .
وقد روى البغوي من طريق إسحاق بن بشر{[29941]} أخبرني مقاتل وابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إنه في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله ، أدخله الجنة . قال : واللوح لوح من درة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك{[29942]} .
قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا زياد بن عبد الله ، عن ليث ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق لوحًا محفوظًا من دُرَّة بيضاء ، صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قَلَمه نور وكتابه نور ، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، يخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ ، ويفعل ما يشاء " {[29943]} .
آخر تفسير سورة " البروج " ولله الحمد{[29944]} .
و «اللوح » : هو اللوح المحفوظ الذي فيه جميع الأشياء ، وقرأ خفض القراء : «في لوحٍ محفوظٍ » بالخفض صفة ل { لوح } المشهور بهذه الصفة ، وقرأ نافع وحده بخلاف عنه وابن محيصن والأعرج : «محفوظٌ » بالرفع صفة القرآن على نحو قوله تعالى : { وإنا له لحافظون }{[11730]} [ الحجر : 9 ] ، أي هو محفوظ في القلوب ، لا يدركه الخطأ والتعديل ، وقال أنس : إن اللوح المحفوظ هو في جبهة إسرافيل ، وقيل : هو من درة بيضاء قاله ابن عباس ، وهذا كله مما قصرت به الأسانيد ، وقرأ ابن السميفع : «في لُوح » بضم اللام .
ووُصف { قرآن } صفة أخرى بأنه مُودع في لوح .
واللوح : قطعة من خشب مستوية تتخذ ليُكتب فيها .
وسَوْق وصف { في لوح } مساق التنويه بالقرآن وباللوح ، يعيِّن أن اللوح كائن قُدُسي من كائنات العالم العلوي المغيَّبات ، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن ، فجعل الله القرآن مكتوباً في لوح علويّ كما جعَل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } [ الأعراف : 145 ] وقال : { وألقى الألواح } [ الأعراف : 150 ] وقال : { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح } [ الأعراف : 154 ] ، وأما لوح القرآن فجعله محفوظاً في العالم العلوي .
وبعض علماء الكلام فسّروا اللَّوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة ، وسموا ذلك بالكتاب المبين ، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء ، وسموا ظهورها في الوجود بالقدَر ، وعلى ذلك درج الأصفهاني في « شرحه على الطوالع » حسبما نقله المنجور في « شرح نظم ابن زكري » مسوقاً في قسم العقائد السمعية وفيه نظر . وورد في آثار مختلفةِ القوة أنه موكل به إسرافيل وأنه كائن عن يمين العرش . واقتضت هذه الآية أن القرآن كله مسجل فيه .
وجاء في آية سورة الواقعة : { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون } [ الواقعة : 77 ، 78 ] وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ ، والكتاب المكنون شيء واحد .
وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهيّ في الوقوع ، فالمحفوظ : المصون عن كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له . والمكنون : الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته ولم يثبت حديث صحيح في ذكر اللوح ولا في خصائصه وكل ما هنالك أقوال معزوّة لبعض السلف لا تعرف أسانيد عَزوها .
وورد أن القلم أول ما خلق الله فقال له : أكتب ، فجرى بما هو كائن إلى الأبد ، رواه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت وقال الترمذي : حسن غريب ، وفيه عن ابن عباس اه .
وخَلق القلم لا يدل على خلق اللوح لأن القلم يكتب في اللوح وفي غيره .
والمجيد : العظيم في نوعه كما تقدم في قوله : { ذو العرش المجيد } [ البروج : 15 ] ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهدياً ووعظاً ، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته .
ووقع في « التعريفات » للسيد الجرجاني : أن الألواح أربعة :
أولها : لَوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول .
الثاني : لوح القدر أي النفس الناطقة الكلية وهو المسمى اللوح المحفوظ .
الثالث : لوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا .
الرابع : لَوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة اه .
وهذا اصطلاح مخلوط بين التصوف والفلسفة . ولعله مما استقراه السيّد من كلام عدة علماء .
وقرأ الجمهور : { محفوظ } بالجر على أنه صفة { لوح } . وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن .
وقرأه نافع وحده برفع { محفوظ } على أنه صفة ثانية لقرآن ويتعلق قوله : { في لوح } ب { محفوظ } . وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضاً ، فلا جرم حصل من القراءتين ثبوت الحفظ للقرآن وللوح . فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] .
وأما حفظ اللوح فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياه . أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى : { في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } [ الواقعة : 78 ، 79 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هو قرآن كريم، مثبت في لوح محفوظ. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: مَحْفُوظٍ فقرأ ذلك من قرأه من أهل الحجاز، أبو جعفر القارئ، وابن كثير. ومن قرأه من قرّاء الكوفة عاصم والأعمش وحمزة والكسائي، ومن البصريين أبو عمرو محفوظٍ خفضا على معنى أن اللوح هو المنعوت بالحفظ. وإذا كان ذلك كذلك كان التأويل في لوح محفوظ من الزيادة فيه، والنقصان منه، عما أثبته الله فيه. وقرأ ذلك من المكّيين ابن مُحَيْصِن، ومن المدنيين نافع «مَحْفُوظٌ» رفعا، ردّا على القرآن، على أنه من نعته وصفته. وكان معنى ذلك على قراءتهما: بل هو قرآن مجيد، محفوظ من التغيير والتبديل في لوح. والصواب من القول في ذلك عندنا: أنهما قراءتان معروفتان في قَرَأة الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والقرآن كما هو محفوظ في اللوح كذلك محفوظ في قلوب المؤمنين، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] فهو في اللوح مكتوبٌ، وفي القلوبِ محفوظٌ...
إنه تعالى قال ههنا: {في لوح محفوظ} وقال في آية أخرى: {إنه لقرءان كريم في كتاب مكنون} فيحتمل أن يكون الكتاب المكنون واللوح المحفوظ واحدا ثم كونه محفوظا يحتمل أن يكون المراد كونه محفوظا عن أن يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} ويحتمل أن يكون المراد كونه محفوظا من اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين ويحتمل أن يكون المراد أن لا يجري عليه تغيير وتبديل...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
واللوح المحفوظ شيء أخبرنا الله به، وأنه أودعه كتابه، ولكن لم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن به، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأت به خبر من المعصوم صلوات الله عليه وسلامه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو في لوح محفوظ. لا ندرك نحن طبيعته، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه. إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير، والإيحاء الذي يتركه في القلوب. وهو أن هذا القرآن مصون ثابت، قوله هو المرجع الأخير، في كل ما يتناوله من الأمور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووُصف {قرآن} صفة أخرى بأنه مُودع في لوح. واللوح: قطعة من خشب مستوية تتخذ ليُكتب فيها. وسَوْق وصف {في لوح} مساق التنويه بالقرآن وباللوح، يعيِّن أن اللوح كائن قُدُسي من كائنات العالم العلوي المغيَّبات، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن، فجعل الله القرآن مكتوباً في لوح علويّ كما جعَل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} [الأعراف: 145] وقال: {وألقى الألواح} [الأعراف: 150] وقال: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} [الأعراف: 154]، وأما لوح القرآن فجعله محفوظاً في العالم العلوي. وبعض علماء الكلام فسّروا اللَّوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة، وسموا ذلك بالكتاب المبين، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء، وسموا ظهورها في الوجود بالقدَر...
وجاء في آية سورة الواقعة: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} [الواقعة: 77، 78] وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون شيء واحد. وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهيّ في الوقوع، فالمحفوظ: المصون عن كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له. والمكنون: الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته... والمجيد: العظيم في نوعه كما تقدم في قوله: {ذو العرش المجيد} [البروج: 15] ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهدياً ووعظاً، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته... وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن...
. وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضاً...
فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]. وأما حفظ اللوح فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياه. أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى: {في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 78، 79]...