ثم فسر تلك الفاحشة فقال : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } أي : كيف توصلتم إلى هذه الحال ، صارت شهوتكم للرجال ، وأدبارهم محل الغائط والنجو والخبث ، وتركتم ما خلق الله لكم من النساء من المحال الطيبة التي جبلت النفوس إلى الميل إليها وأنتم انقلب عليكم الأمر فاستحسنتم القبيح واستقبحتم الحسن { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } {[596]} متجاوزون لحدود الله متجرئون على محارمه .
وقوله - سبحانه - : { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء . . . } تأكيد للإنكار السابق ، وتوضيح للفاحشة التى كانوا يأتونها .
والإتيان : كناية عن الاستمتاع والجماع ، مأخوذ من أتى المرأة إذا جامعها .
أى : أئنكم - أيها الممسوخون فى فطرتكم وطبائعكم - لتصبون شهوتكم التى ركبها الله - تعالى - فيكم فى الرجال دون النساء اللاتى جعلهن الله - تعالى - محل شهوتكم ومتعتكم .
قال الآلوسى : والجملة الكريمة تثنية للإنكارن وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام وتحلية الجملة بحرفى التأكيد ، للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد ، لكمال شناعته ، وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية ، لزيادة التقبيح والتوبيخ .
وقوله - تعالى - : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن الأسباب التى جعلتهم يرتكبون هذه القبائح ، وهى أنهم قوم دينهم الجهل والسفاهة والمجون وانطماس البصيرة .
وقد حكى القرآن أن لوطا قد قال لهم فى سورة الأعراف : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } وقال لهم فى سورة الشعراء : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } وقال لهم هنا : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مصابين بفساد العقل ، وانحراف الفطرة ، وتجاوز كل الحدود التى ترتضيها النفوس الكريمة .
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : لا تعرفون شيئًا لا طبعًا ولا شرعًا ، كما قال في الآية الأخرى : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 165 ، 166 ] .
وقوله : { أئنكم لتأتون } تقدم في الأعراف ( 81 ) { إنكم لتأتون ، فهنا جيء بالاستفهام الإنكاري ، وما في الأعراف جاء الخبر المستعمل في الإنكار ، فيجوز أن يكون اختلاف الحكاية لاختلاف المحكي بأن يكون لوط قد قال لهم المقالتين في مقامين مختلفين . ويجوز أن يكون اختلاف الحكاية تفنناً مع اتحاد المعنى . وكلا الأسلوبين يقع في قصص القرآن ، لأن في تغيير الأسلوب تجديداً لنشاط السامع .
على أن ابن كثير وأبا عمرو وابن عامر وحمزة وأبا بكر عن عاصم قرأوا ما في سورة الأعراف بهمزتين فاستوت الآيتان على قراءة هؤلاء . وقد تقدمت وجوه ذلك في سورة الأعراف .
ووقع في الأعراف ( 80 ) { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } ولم يذكر هنا لأن ما يجري في القصة لا يلزم ذكر جميعه . وكذلك القول في عدم ذكر { وأنتم تبصرون } في سورة الأعراف مع ذكره هنا .
ونظير بقية الآية تقدم في سورة الأعراف ، إلاّ أن الواقع هنا { بل أنتم قوم تجهلون } ، فوصفهم بالجهالة وهي اسم جامع لأحوال أَفن الرأي وقساوة القلب .
وفي الأعراف وصفهم بأنهم قوم مسرفون وذلك يحمل على اختلاف المقالتين في مقامين .
وفي إقحام لفظ { قوم } في الآيتين من الخصوصية ما تقدم آنفاً في قوله في هذه السورة { إن في ذلك لآية لقوم يعلمون } [ النمل : 52 ] .
ورُجّح في قوله : { تجهلون } جانب الخطاب على جانب الغيبة فلم يقل : يَجهلون ، بياء الغيبة وكلاهما مقتضى الظاهر لأن الخطاب أقوى دلالة كما قرىء في قوله : { بل أنتم قوم تُفتنون } [ النمل : 47 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.