ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار أولياء يحبونهم ويتولونهم ، ويبدون لهم{[268]} أسرار المؤمنين ، ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر الإسلام والمسلمين ، وأن ما معهم من الإيمان يوجب عليهم ترك موالاتهم ، ويحثهم على معاداتهم ، وكذلك التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره مما تدعوهم إلى معاداتهم ، وكذلك ما كان عليه المشركون والكفار المخالفون للمسلمين ، من قدحهم في دين المسلمين ، واتخاذهم إياه هزوا ولعبا ، واحتقاره واستصغاره ، خصوصا الصلاة التي هي أظهر شعائر المسلمين ، وأجلُّ عباداتهم ،
ثم كرر - سبحانه - نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم الذين استخفوا بتعاليم الإِسلام ، وشعائر دينه فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ . . . }
قال الآلوسي : أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت ، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإِسلام ونافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما . فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ } . . . الآية .
والدين : هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة . فهو عنوان عقل المتدين ، ورائد آماله ، وباعث أعماله . والذي يتخذ دين امرئ هزوا ولعبا ، فقد اتخذ ذلك المتدين بهذا الدين هزوا ولعبا .
وقوله : { هزوا } أي سخرية يقال : فلان هزئ من فلان إذا سخر منه ، واستخف به . وأصله هزءاً ، فأبدلت الهمزة واوا لضم ما قبلها .
وقوله : { لعبا } أي ملهاة وعبثا . وأصله من لعاب الطفل . يقال عن الطفل لعب - بفتح العين - إذا سال لعابه .
والمعنى : يأيها الذين اتصفوا بالإِيمان { لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ } الذي هو سر سعادتكم وعزتكم { هُزُواً وَلَعِباً } أي : اتخذوه مادة لسخريتهم وتهكمهم ، وموضعا لعبثهم ولهوهم .
و { من } في قوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ } بيانية .
أي : مبينة لأولئك الذين يستهزئون بدين الله ويجعلونه موضع عبثهم .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى .
وسموا بذلك ؛ لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل هو التوراة والإِنجيل .
وفي وصفهم بذلك هنا ، توبيخ لهم ، حيث إنهم استهزؤوا بالدين الحق ، مع أن كتابهم ينهاهم عن ذلك .
والمراد بالكفار هنا المشركون الذين لا كتاب لهم .
وقرأ الجمهور { والكفار } بالنصب عطفا على { الذين اتخذوا دِينَكُمْ } المبين بقوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } .
وقرأ أبو عمرو والكسائي ( الكفار ) بالجر عطفا على { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } .
وقرأ : { أَوْلِيَآءَ } أي : نصراء وأصفاء . وهو المفعول الثاني لقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ } والآية الكريمة تنهى المؤمنين عن ولاية كل عدو لله - تعالى - ولهم سواء أكان هذا العدو من أهل الكتاب أم من المشركين ؛ لأن الجميع يشتركون في الاستهزاء بتعاليم الإِسلام ، وفي العبث بشعائره .
وقوله : { واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } تذييل قصد به استنهاض همتهم لامتثال أمر الله - تعالى - وإلهاب نفوسهم حتى يتركوا موالاة أعدائهم بسرعة ونشاط .
أي : واتقوا الله في سائر ما أمركم به وما نهاكم عنه ، فلا تضعوا موالاتكم في غير موضعها ، ولا تخالفوا لله أمراً . إن كنتم مؤمنين حقا ، ممتثلين صدقا ، فإن وصفكم بالإِيمان يحتم عليكم الطاعة التامة لله رب العالمين .
وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله ، من الكتابيين والمشركين ، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون ، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي و أخروي ، يتخذونها { هُزُوًا وَلَعِبًا } يستهزئون{[9991]} بها ، { وَلَعِبًا } يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد ، وفكرهم البارد كما قال القائل :{[9992]}
وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا *** وآفَتُهُ مِن الْفَهم السَّقِيمِ
وقوله : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ } " من " ههنا لبيان الجنس ، كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، وقرأ بعضهم { وَالْكُفَّارَ } بالخفض عطفا ، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } تقديره : ولا الكفار أولياء ، أي : لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء .
والمراد بالكفار ههنا المشركون ، وكذا وقع في قراءة ابن مسعود ، فيها رواه ابن جرير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ } .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوًا ولعبًا ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] .
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم ، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين { هزؤاً ولعباً } والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزُؤاً » بضم الزاي والهمز ، و «هزْؤاً » بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزاً بتشديد الزاي المفتوحة و «هزُواً » بضم الزاي وتنوين الواو و «هزاً » بزاي مفتوحة منونة ، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واختلف القراء في إعراب { الكفار } فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة : «والكفارَ » نصباً ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفارِ » خفضاً ، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب ، قال أبو علي : حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل .
قال القاضي أبو محمد : ويدخل «الكفار » على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤاً ، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله : { إنا كفيناك المستهزئين }{[4603]} وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية ، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم { إنا معكم إنما نحن مستهزئون }{[4604]} ، ومن قرأ «الكفارَ » بالنصب حمل على الفعل الذي هو { لا تتخذوا } ، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم ، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار » بزيادة «من » فهذه تؤيد قراءة الخفض ، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا » وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان ، لأنهم أبعد شأواً في الكفر ، وقد قال تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين }{[4605]} ففرق بينهم إرادة البيان والجميع كفار ، وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة ، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب ، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء ، والمنافقون بألسنتهم ، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله : { إن كنتم مؤمنين } أي حق مؤمنين .