{ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } أي : عصاك { تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي : كيدهم ومكرهم ، ليس بمثمر لهم ولا ناجح ، فإنه من كيد السحرة ، الذين يموهون على الناس ، ويلبسون الباطل ، ويخيلون أنهم على الحق ، فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا كله وأكلته ، والناس ينظرون لذلك الصنيع ، فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر ، وأنه من الله ، فبادروا للإيمان .
وقوله - سبحانه - : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا . . . } زيادة فى تشجيعه وتثبيته .
وتلقف من اللقف بمعنى الأخذ للشىء بسرعة وخفى ، يقال : لقف فلان يلقَفُه لقْفا ولقَفَاناً ، إذا تناوله بسرعة وحذق باليد أو الفم .
وفى هذه الكلمات ثلاث قراءات سبعية ، أحدها : " تَلَقَّفْ " بتاء مفتوحة مخففة ، بعدها لام مفتوحة ، ثم قاف مشددة وفاء ساكنة ، وأصل الفعل تلقف ، فحذفت إحداهما تخفيفا ، وهو مجزوم فى جواب المر وهو { وَأَلْقِ } .
وثانيها : { تَلَقَّفُ } كالقراءة السابقة مع ضم الفاء ، على أن الفعل خبر لمبتدأ محذوف . أى : وألق ما فى يمينك فهى تلقف ما صنعوا .
وثالثها : { تَلْقَفْ } بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف المخففة وجزم الفعل كالقراءة الأولى .
والمراد فما في يمينه عصاه ، كما جاء ذلك صريحا فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - : { فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } وعبر عنها بقوله : { مَا فِي يَمِينِكَ } على سبيل التهويل من شأنها ، أو لتذكيره بما شاهده منها بعد أن قال الله - تعالى - له قبل ذلك { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى . . . . قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } والمعنى : وألق يا موسى ما فى يمينك تبتلع كل ما صنعه السحرة من تمويه وتزوير وتخييل ، جعل الناس يتوهمون أن حبالهم وعصيهم تسعى .
قال ابن كثير : وذلك أنها صارت تنينا هائلا - أى حية عظيمة - ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصى حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته وابتعلته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهارا نهارا . . . فقامت المعجزة ، واتضح البرهان ، وبطل ما كانوا يعملون .
وقوله : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } تعليل لقوله { تَلْقَفْ مَا صنعوا } و { مَا } موصولة وهى اسم إن ، و { كَيْدُ } خبرها ، والعائد محذوف .
والتقدير : وألق يا موسى عصاك تلقف ما صنعوه ، فإن الذى صنعوه إنما هو كيد من جنس كيد السحرة وصنعهم وتمويههم .
{ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر } أى ولا يفوز هذا الجنس من الناس { حَيْثُ أتى } أى : حيث كان فحيث ظرف مكان أريد به التعميم .
أى : أن الساحر لا يفلح ولا يفوز أينما كان ، وحيثما أقبل ، وأنَّى اتجه ، لأنه يصنع للناس التخييل والتمويه والتزوير والتزييف للحقائق .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم وحد ساحر ولم يجمع ؟ قلت : لأن القصد فى هذا الكلام إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد .
لا تخف ( وألق ما في يمينك )بهذا التنكير للتضخيم ( تلقف ما صنعوا ) . فهو سحر من تدبير ساحر وعمله . والساحر لا يفلح أنى ذهب وفي أي طريق سار ، لأنه يتبع تخييلا ويصنع تخييلا ؛ ولا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية . شأنه شأن كل مبطل أمام القائم على الحق المعتمد على الصدق . وقد يبدو باطله ضخما فخما ، مخيفا لمن يغفل عن قوة الحق الكامنة الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول ولا تتظاهر ؛ ولكنها تدمغ الباطل في النهاية ، فإذا هو زاهق وتلقفه فتطويه ، فإذا هو يتوارى .
وألقى موسى . . ووقعت المفاجأة الكبرى . والسياق يصور ضخامة المفاجأة بوقعها في نفوس السحرة الذين جاءوا للمباراة فهم أحرص الناس على الفوز فيها ، والذين كانوا منذ لحظة يحمس بعضهم بعضا ويدفع بعضهم بعضا . والذين بلغت بهم البراعة في فنهم إلى حد أن يوجس في نفسه خيفة موسى .
ويخيل إليه - وهو الرسول - أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى ! يصور السياق وقع المفاجأة في نفوسهم في صورة تحول كامل في مشاعرهم ووجدانهم ، لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه ؛ ولا يكفي النطق للإفضاء به .
عبّر عن العصا ب { مَا } الموصولة تذكيراً له بيوم التكليم إذ قال له : { وما تلك بيمينك يا موسى } [ طه : 17 ] ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ ، ولذلك لم يقل له : وألق عصاك .
والتلقّف : الابتلاع . وقرأه الجمهور بجزم { تلقّفْ في جواب قوله وَأَلْقِ } . وقرأه ابن ذكوان برفع { تلقّف على الاستئناف .
وقرأ الجمهور تلَقّف بفتح اللام وتشديد القاف .
وقرأه حفص بسكون اللاّم وفتح القاف من لقِف كفرِح .
وجملة { إنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحر } مستأنفة ابتدائية ، وهي مرَكبّة من ( إنّ ) و ( مَا ) الموصولة . و { كيد ساحر } خبر ( إنّ ) . والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه . وكتب ( إنما ) في المصحف موصولة ( إنّ ) ب ( ما ) الموصولة كما توصل ب ( ما ) الكافّة في نحو { إنما حرّم عليكم الميتة } [ البقرة : 173 ] ولم يكن المتقدمون يتوخّون الفروق في رسم الخط .
وقرأ الجمهور { كيد ساحر بألف بعد السين . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف كيد سِحر بكسر السين .
وجملة { ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتى } من تمام الجملة التي قبلها ، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير { إنَّمَا صَنَعُوا } ، أي لا يَنجحُ الساحر حيث كان ، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس في عدم التأثّر بها . وتعريف { الساحر } تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف ، أي لا يفلح بها كلّ ساحر .
واختير فعل { أتى } دون نحو : حيث كانَ ، أو حَيث حلّ ، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر ، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة .
وتعميم { حَيْثُ أتى } لعموم الأمكنة التي يحضرها ، أي بسحره .
وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها . وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، لأنّ عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.