فحين هلكوا تولى عنهم نبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام { وَقَالَ ْ } معاتبا وموبخا ومخاطبا بعد موتهم : { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ْ } أي : أوصلتها إليكم ، وبينتها حتى بلغت منكم أقصى ما يمكن أن تصل إليه ، وخالطت أفئدتكم { وَنَصَحْتُ لَكُمْ ْ } فلم تقبلوا نصحي ، ولا انقدتم لإرشادي ، بل فسقتم وطغيتم .
{ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ْ } أي : فكيف أحزن على قوم لا خير فيهم ، أتاهم الخير فردوه ولم يقبلوه ولا يليق بهم إلا الشر ، فهؤلاء غير حقيقين أن يحزن عليهم ، بل يفرح بإهلاكهم ومحقهم . فعياذا بك اللهم من الخزي والفضيحة ، وأي : شقاء وعقوبة أبلغ من أن يصلوا إلى حالة يتبرأ منهم أنصح الخلق لهم ؟ " .
وأخيراً تطوى السورة الكريمة صفحتهم مشيعة إياهم بالتبكيت والاهمال من رسولهم وأخيهم في النسب فتقول : { فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ } .
الأسى : الحزن . وحقيقته اتباع الفائت بالغم . يقال : أسيت عليه - أساً ، أى : حزنت والمعنى فأعرض عنهم شعيب بعد أن أصابهم ما أصابهم من النقمة والعذاب وقال مقرعا إياهم يا قوم : { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } التي أرسلنى بها إليكم من العقائد والأحكام والمواعظ { وَنَصَحْتُ لَكُمْ } بما فيه إصلاحكم وهدايتكم " فكيف أحزن على قوم كافرين " بذلت جهدى في سبيل هدايتهم ونجاتهم ، ولكنهم كرهوا النصح ، واستحبوا العمى على الهدى .
لا ، لن آسى عليهم . ولن أحزن من أجل هلاكهم ، لأنهم لا يستحقون ذلك .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن جانب من قصص نوح وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب مع أقوامهم . بعد أن بدأت بقصة آدم وإبليس وسنراها بعد قليل تحدثنا حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل .
ويلاحظ أن سورة الأعراف قد اتبعت في حديثها عن هؤلاء الرسل الكرام التسلسل التاريخى ، وذلك لأهداف من أهمها :
1 - إبراز وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ، فأنت رأيت أن كل رسول أتى قومه ليقول لهم : يا قوم ابعدوا الله ما لكم من إله غيره ، يقولها ثم يسوق لهم بأسلوبه الخاص أنصع الدلائل ، وأقوى الحجج ، وخير البراهين ومختلف وجوه الإرشاد ، لكى يقنعهم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه .
2 - تصوير وحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر في نفوس الناس على مدار التاريخ ، فالمؤمنون يلتفون حول رسولهم يصدقون قوله ، ويتأسون به في كل أحواله ويدافعون عن عقيدتهم بقوة وشجاعة ، والكافرون يستكبرون أن يرسل الله رسولا من البشر ، ويأبون بدافع الحقد والعناد والتطاول الاستجابة لرجل منهم ، ويلقون التهم جزافا لكى يصرفوا الناس عنه .
وهكذا نرى أن نفوس المؤمنين تتشابه في إخلاصها ونقائها وصفائها وحسن تقبلها للخير . بينما نفوس الكافرين تتشابه - أيضاً - في ظلامها وقوستها وفجورها وسوء تقبلها للهداية .
3 - بيان العاقبة الطيبة التي انتهى إليها المؤمنون بسبب إيمانهم وصبرهم وعملهم الطيب ، والعاقبة السيئة التي حاقت بالكافرين المستكبرين ، بسبب إعراضهم عن الحق ، واستهزائهم بأصحابه ، { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وبعد هذا الحديث الزاخر بالعظات والعبر عن بعض الأنبياء مع أقوامهم تمضى السورة الكريمة في سرد هداياتها ، فتسوق للناس ألوانا من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل ، لعل قلوبهم ترق ، ونفوسهم تتذكر ، وعقولهم تعى .
وكأن السورة الكريمة تقول للناس : لقد سقت لكم الكثير من أخبار الماضين . وقصصت عليكم ما فيه الذكر لكل قلب سليم من أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وأريتكم كيف كانت عاقبة الأخيار ، وكيف كانت عاقبة الأشرار ، فاجتهدوا في طاعة الله ، وسيروا في طريق الأخيار لتسعدوا كما سعدوا . واجتنبوا سبيل الأشرار حتى لا يصيبكم ما أصابهم ، فقد جرت سنته - سبحانه - أنه يمهل ولا يهمل ، وأن يبتلى الناس بالسراء والضراء لعلهم يضرعون ، وأن يفتح أبواب خيراته وبركاته لمن آمن به واتقاه ، وأبواب عقوباته لمن كفر به وعصاه .
ويطوي صفحتهم مشيعة بالتبكيت والإهمال ، والمفارقة والانفصال ، من رسولهم الذي كان أخاهم ، ثم افترق طريقه عن طريقهم ، فافترق مصيره عن مصيرهم ، حتى لم يعد يأسى على مصيرهم الأليم ، وعلى ضيعتهم في الغابرين :
( فتولى عنهم ، وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين ؟ ) .
إنه من ملة وهم من ملة . فهو أمة وهم أمة . أما صلة الأنساب والأقوام ، فلا اعتبار لها في هذا الدين ، ولا وزن لها في ميزان اللّه . . فالوشيجة الباقية هي وشيجة هذا الدين ، والارتباط بين الناس إنما يكون في حبل اللّه المتين . .
انتهى الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع مبدوءاً بقوله تعالى : ( قال الملأ الذين استكبروا )
وقوله : { يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي } إلى آخر الآية كلام يقتضي أن { شعيباً } عليه السلام وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه حزناً وإشفاقاً إذ كان أمله فيهم غير ذلك ، فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم والقسوة عليهم فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم الذي استوجبوا به أن لا يتأسف عليهم ، فذكر أنه بلغ الرسالة ونصح ، والمعنى فأعرضوا وكذبوا ، ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا وفكرت فيه { فكيف آسى } على هؤلاء الكفرة ، ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر ، وقال مكي : وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها ، و { آسى } : أحزن ، وقرأ بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش : «إيسى » بكسر الهمزة وهي لغة كما يقال أخال وأيمن ، قال عبد الله ابن عمر لا أخاله ، وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر في كتاب الحج لا أيمن وجميع ذلك في البخاري ، وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث ، همزة التكلم ونون الجماعة وتاء المخاطبة ، ولا يجوز ذلك في ياء الغائب كذا قال سيبويه ، وأما قولهم من جل ييجل فلعله من غير هذا الباب .
تقدم تفسير نظير هذه الآية إلى قوله : { ونصحت لكم } من قصة ثمود ، وتقدم وجه التعبير ب { رسالات } بصيغة الجمع في نظيرها من قصة قوم نوح .
ونداؤُه قومه نداء تحسر وتبرىء من عملهم ، وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر ، حين وقف على القليب الذي ألقي فيه قتلى المشركين فناداهم بأسماء صناديدهم ثم قال : " لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً " وجاء بالاستفهام الإنكاري في قوله : { فكيف آسى على قوم كافرين } مخاطباً نفسه على طريقة التجريد ، إذ خطر له خاطر الحزن عليهم فدفعه عن نفسه بأنهم لا يستحقون أن يؤسف عليهم لأنهم اختاروا ذلك لأنفسهم ، ولأنه لم يترك من تحذيرهم ما لو ألقاه إليهم لأقلعوا عما هم فيه فلم يبق ما يوجب أسفه وندامته كقوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ الكهف : 6 ] وقوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] .
فالفاء في { فكيف آسى على قوم كافرين } للتفريع على قوله : { لقد أبلغتكم } الخ . . . فرع الاستفهام الإنكاري على ذلك لأنه لمّا أبلغهم ونَصحَ لهم وأعرضوا عنه ، فقد استحقوا غضب من يَغضب لله ، وهو الرسول ، ويرى استحقاقهم العقاب فكيف يحزن عليهم لما أصابهم من العقوبة .
والأسى : شدة الحزن ، وفعله كرضي ، و« آسى » مضارع مفتتح بهمزة التكلم ، فاجتمع همزتان .
ويجوز أن يكون الاستفهام الإنكاري موجهاً إلى نفسه في الظاهر ، والمقصود نهي من معه من المؤمنين عن الأسى على قومهم الهالكين ، إذ يجوز أن يحصل في نفوسهم حزن على هلكى قومهم وإن كانوا قد استحقوا الهلاك .
وقوله : { على قوم كافرين } إظهار في مقام الإضمار : ليتأتى وصفهم بالكفر زيادة في تعزية نفسه وترك الحزن عليهم .
وقد نَجى الله شعيباً مما حلّ بقومه بأن فارق ديار العذاب ، قيل : إنه خرج مع من آمن به إلى مكة واستقروا بها إلى أن تُوُفوا ، والأظهر أنهم سكنوا محلة خاصة بهم في بلدهم رفع الله عنها العذاب ، فإن بقية مدين لم يزالوا بأرضهم ، وقد ذكرت التوراة أن شعيباً كان بأرض قومه حينما مرّت بنو إسرائيل على ديارهم في خروجهم من مصر .