نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡۖ فَكَيۡفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ} (93)

ولما صارت تلك الدار محل الغضب ، سبب ذلك أن هاجر عنها كما كانت عادة من قبله من الأنبياء عليهم السلام ، فقال : { فتولى عنهم } بعد نزول العذاب وقبله عند رؤية مخايله ذاهباً إلى مكان غيره{[32772]} ، يعبد ربه فيه { وقال } متأسفاً على ما فاته من هدايتهم { يا قوم } أي يا عشيرتي وأقرب الناس إليّ { لقد أبلغتكم } ولعله جمع لأجل كثرة{[32773]} ما أتاهم به من المعجزات فقال : { رسالات ربي } أي المحسن إليّ بإنجائي ومن تبعني من عذابكم لتوفيقه لنا إلى ما يرضيه { ونصحت } أي و{[32774]}أوقعت النصح { لكم } أي خاصة .

ولما كان هذا مفهماً لما{[32775]} طبع البشر من الأسف أهله وعشيرته ، سبب عنه{[32776]} منكراً على نفسه قوله : { فكيف آسى } أي أحزن{[32777]} حزناً شديداً { على قوم كافرين* } أي عريقين في الكفر ، فعرف أنه أسف عليهم من أجل قربهم وفوات الإيمان لهم غير آسف عليهم من أجل كفرهم ، وتخصيص تكرير هذه القصص الخمس على هذا الترتيب في كثير من سور القرآن- دون قصة إبراهيم عليه السلام وهو أعظمهم - لانتظامهم في أنهم أقرت أعينهم بأن رأوا مصارع من خالفهم ، وأما إبراهيم عليه السلام فإنه وقع النص في قوله{ إني ذاهب إلى ربي سيهدين }{[32778]} بأنه خرج من بين قومه قبل عذابهم ولم يسلك به سبيلهم في إقرار عينه بإهلاك من كذبه بحضرته ، وهو أفضلهم لأن الكائن في قصته أعظم في الأفضلية ، وهو طبق ما اتفق لولده أفضل البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وانظر إلى قوله تعالى{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم }{[32779]} تعرف ما في هذا المقام من الإكرام ، وأن الأمر كما قيل : لعين تجازى ألف عين وتكرم .


[32772]:- في ظ: غير-كذا
[32773]:- في ظ: لكثرة.
[32774]:- سقط من ظ.
[32775]:- من ظ، وفي الأصل: هو-كذا.
[32776]:- في ظ: عنهم، وزيد بعده في الأصل: قوله، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[32777]:- في ظ: أحسن.
[32778]:- سورة 37 آية 99.
[32779]:- سورة 8 آية 33