فهؤلاء قال الله فيهم : { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } و " عسى " ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه ، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة ، وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته ، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي ، بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب . والله أعلم .
وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور ، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } وقال في عموم الأوامر : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله : { لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة .
وقوله { فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } . بيان لحكم هؤلاء المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا .
أى : أن هؤلاء الذين قعدوا عن الهجرة لأعذار حالت بينهم وبينها { عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أى : يتجاوز عنهم بفضله ورحمته بسبب عدم استطاعتهم للهجرة .
قال الجمل : وعسى ولعل فى كلام الله واجبتان ، وإن كانتا رجاء وطمعا فى كلام المخلوقين ، لأن المخلوق هو الذى تعرض له الشكوك والظنون . والبارى منزه عن ذلك ، وإذا أطمع - سبحانه - عبده وصله .
وقال الآلوسى : وفى قوله { عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى ان المضطر الذى تحقق عدم وجوبها عليه ينبغى له أن يعد تركها ذنبا ، ولا يأمن . ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها .
وقوله { وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه أى وكان الله - تعالى - . وما زال كثير العفو عن عباده فيما يقعون فيه من تقصير ، كثير المغفرة لمن تاب إليه وأناب .
ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر ؛ والتعرض للفتنة في الدين ؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف ، والنساء والأطفال ؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته . بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار :
( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورًا ) . .
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان ؛ متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين ، وفي بيئة معينة . . يمضي حكما عاما ؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض ؛ وتمسكه أمواله ومصالحه ، أو قراباته وصداقاته ؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها . متى كان هناك - في الأرض في أي مكان - دار للإسلام ؛ يأمن فيها على دينه ، ويجهر فيها بعقيدته ، ويؤدي فيها عباداته ؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله ، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة . .
( فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً )
جملة { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } الفاء فيها للفصيحة ، والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنّهم جديرون بالحكم المذكور من المغفرة .
فعل { عسى } في قوله : { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } يقتضي أنّ الله يرجو أن يعفو عنهم ، وإذْ كان الله هو فاعل العفو وهو عالم بأنّه يعفو عنهم أو عن بعضهم بالتعيين تعيّن أن يكون معنى الرجاء المستفاد من { عسى } هنا معنى مجازياً بأنّ عفوه عن ذنبهم عفوٌ عزيز المنال ، فمُثِّل حال العفو عنهم بحال من لا يُقطع بحصول العفو عنه ، والمقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم ، لئلاّ يتساهلوا في شروطه اعتماداً على عفو الله ، فإنّ عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى ، لأنّ البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم ، وكان الواجب العزيمةُ أن يكلّفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك ، كما فعلت سُمَيَّة أمُّ عمّارٍ بن ياسر .
وهذا الاستعمال هو محمل موارد { عسى } و ( لعلّ ) إذا أسندا إلى اسم الله تعالى كما تقدّم عند قوله تعالى : { وإذْ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون } في سورة البقرة ( 53 ) ، وهو معنى قول أبي عبيدة : « عسى من الله إيجاب » وقول كثير من العلماء : أنّ عسى ولعلّ في القرآن لليقين ، ومرادهم إذا أسند إلى الله تعالى بخلاف نحو قوله : { وقل عَسَى أن يهديني ربّي لأقرب من هذا رشداً } [ الكهف : 24 ] .
ومثل هذا ما قالوه في وقوع حرَف ( إنْ ) الشرطية في كلام الله تعالى ، مع أنّ أصلها أن تكون للشرط المشكوك في حصوله .
وقد اتّفق العلماء على أنّ حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأنّ الهجرة كانت واجبةً لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين ، وللتمكّن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك ، فلمّا صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها ، ويؤيّده حديث : " لا هجرة بعد الفتح ولكنْ جِهَادٌ ونيَّة " فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلاّ المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة . وفي الحديث : " أللهمّ أمْضِ لأصحابي هجرتهم ولا تَرُدُّهْم على أعقابهم " قاله بعدَ أن فتحت مكة . غير أنّ القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظراً في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه ، وهذه أحكام يجمعها ستّة أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون المؤمن ببلد يُفتن فيه في إيمانه فيُرغَم على الكفر وهو يستطيع الخروج ، فهذا حكمَه حكم الذين نزلت فيهم الآية ، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصرّ ، فخرجوا على وجوههم في كلّ واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانِهم ، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016 .
الحالة الثانية : أن يكون ببلدِ الكفر غيرَ مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال ، فهذا قد عرض نفسه للضرّ وهو حرام بلا نزاع ، وهذا مسمَّى الإقامةِ ببلد الحرب المفسّرة بأرض العدوّ .
الحالة الثالثة : أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلاّ أنّهم لم يفتِنوا الناسَ في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولكنّه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين ، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية ، وظاهر قول مالك أنّ المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنّه تجري عليه أحكام غير المسلمين ، وهو ظاهر المدوّنة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية ، كذلك تأوّل قولَ مالك فقهاء القيروان ، وهو ظاهر الرسالة ، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته ، وارتضاه ابن محرز وعبد الحقّ ، وتأوّله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري ، وزاد سحنون فقال : إنّ مقامه جرحة في عدالته ، ووافقه المازري وعبد الحميد ، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحجّ وغيره . وقال البرزلي عن ابن عرفة : إن كان أمير تونس قويّاً على النصارى جاز السفر ، وإلاّ لم يجز ، لأنّهم يهينون المسلمين .
الحالة الرابعة : أن يتغلّب الكفّار على بلدٍ أهلُه مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم ، ولكنّهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط ، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي . وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم ، فإنّ أهلها أقاموا بها مدّة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك ، وهاجر فريق منهم فلم يَعِب المهاجر على القاطن ، ولا القاطنُ على المهاجر .
الحالة الخامسة : أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام ، مع بقاء ملوك الإسلام فيها ، واستمرار تصرّفهم في قومهم ، وولاية حُكَّامهم منهم ، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم ، ولكنّ تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم ، وهو ما يسمّى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب ، كما وقع في مصر مدّة احتلال جيش الفرنسيس بها ، ثم مدّة احتلال الأنقليز ، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا ، وكما وقع في سوريا والعراق أيّام الانتدَاب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها .
الحالة السادسة : البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع ، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلِط عملاً صالحاً وآخرَ سَيّئاً ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع ، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلاّ بالقول ، أو لا يستطيع ذلك أصلاً وهذه رُوي عن مالك وجوب الخروج منها ، رواه ابن القاسم ، غير أنّ ذلك قد حدث في القيروان أيّام بني عبيد فلم يُحفظ أنّ أحداً من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة . وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله . وحدث في مصر مدّة الفاطميين أيضاً فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين . ودون هذه الأحوال الستّة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة ، وأنّها مراتب ، وإنّ لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية .