محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَأُوْلَـٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا} (99)

( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا99 )

( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) أن يتجاوز عنهم بترك الهجرة . قال الرازي : ههنا سؤال . وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة ، والعاجز عن الشيء غير مكلف به ، وإذا لم يكن مكلفا به لم يكن عليه في تركه عقوبة – فلم قال : ( عسى الله أن يعفو عنهم ؟ ) والعفو لا يتصور إلا مع الذنب . وأيضا ( عسى ) كلمة الإطماع . وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم . والجواب عن الأول : أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة . وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة ، عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة ، شاق ومشتبه . فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ، ولا يكون كذلك ، ولاسيما في الهجرة عن الوطن . فإنها شاقة على النفس . وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا . مع أنه لا يكون كذلك . فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام . والجواب عن الثاني –بأن الفائدة في ( عسى ) الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه . حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني . فكيف الحال في غيره ؟ هذا ما ذكره صاحب ( الكشاف ) .

والأولى في الجواب ما قدمناه . وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ، ربما ظن نفسه عاجزا عنها . مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة . فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة ( عسى ) لا بالكلمة الدالة على القطع . انتهى . وقال أبو السعود : جيء بكلمة ( الاطماع ) ولفظ ( العفو ) إيذانا بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها ، ممن تحقق عدم وجوبها عليه ، ذنبا يجب طلب العفو عنه ، رجاء وطمعا . لا جزما وقطعا . وقال المهايمي : فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير . حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلق قلبه بها . وان الصبي إذا قدر فلا محيص له عنه . وان قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم . ثم أكد الاطماع لئلا ييأسوا فقال : ( وكان الله عفوا غفورا ) وفي إقحام ( كان ) إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق . أو أن هذه عادته تعالى ، أجراها في حق خلقه . ووعده بالعفو والمغفرة مطلقا مما يدل على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة .

/ تنبيه :

قال السيوطي في ( الاكليل ) : استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر ، إلا على من لم يطقها . وعن مالك : الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تغير فيه السنن ، فينبغي أن يخرج منه . انتهى .

وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر . ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح . ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال : ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء ) {[2167]} . قيل : ونسخت بعد الفتح . والصحيح عدم النسخ . وقوله صلى الله عليه وسلم{[2168]} : " لا هجرة بعد الفتح " ، معناه من مكة .

قال جار الله : وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب ، لبعض الأسباب ، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله ، حقت عليه الهجرة . ثم قال رحمه الله : قال في ( التهذيب ) : وعن القاسم بن إبراهيم : إذا ظهر الفسق في دار ، ولا يمكنه الأمر بالمعروف ، فالهجرة واجبة . وهذا بناء على أن الدور ثلاث : دار إسلام ، ودار فسق ، ودار حرب . وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم ، وابن أبي النجم في كتاب / ( الهجرة والدور ) عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي علي . وذهب الإخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق . واعلم أن من حمل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك ، فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة . وقد قال الراضي بالله : ان من سكن دار الحرب مستحلا ، كفر . لأن ذلك رد لصريح القرآن . واحتج بهذه . وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن احمد عن القاسم والهادي والراضي بالله : التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم . وفي ( مهذب الراضي بالله ) : يكفر إذا جاورهم سنة . قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى ، حاكيا عن الراضي بالله : انه يكفر بسكنى دار الحرب وان لم يستحل ، لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه . والحكم بالتكفير محتمل هنا . ثم قال : وإنما استثنى تعالى الولدان ، وان كانوا غير داخلين في التكليف ، بيانا لعدم حيلتهم . والهجرة إنما تجب على من له حيلة . انتهى .

وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : الهجرة الترك . والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره . وفي الشرع : ترك ما نهى الله عنه . وقد وقعت في الاسلام على وجهين :

الأول : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن . كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .

الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان . وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين . وكانت الهجرة ، إذ ذاك ، تختص بالانتقال إلى المدينة . إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص . وبقي عموم الانتقال من دار الكفر ، لمن قدر عليه ، باقيا . انتهى . وقد أفصح ابن عمر بالمراد . فيما أخرجه الاسماعيلي بلفظ : " انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " . ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار . أي : ما دام في الدنيا دار كفر ، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه . وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة . أخرجها مجد الدين بن تيمية في ( منتقى الأخبار ) في ترجمة ( باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها ) ثم قال : عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{[2169]} " من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله " . رواه أبو داود . وعن جرير بن عبد الله : " أن رسول الله{[2170]} صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود . فأسرع فيهم القتل . فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم . فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين . قالوا : يا رسول الله ! لم ؟ قال : لا تراءى ناراهما " . رواه أبو داود والترمذي . وعن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة . ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " . رواه أحمد{[2171]} وأبو داود . {[2172]} وعن عبد الله بن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال{[2173]} : " لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو " . رواه أحمد والنسائي . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[2174]} : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " . رواه الجماعة إلا ابن ماجة . وعن عائشة ، وسئلت عن الهجرة ، فقالت : " لا هجرة اليوم . كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن . فأما اليوم فقد أظهر الله الاسلام . والمؤمن يعبد ربه حيث شاء " . رواه البخاري{[2175]} . وعن مجاشع بن مسعود " انه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا مجالد . جاء يبايعك على الهجرة . فقال : لا هجرة بعد فتح مكة . ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد " . متفق عليه{[2176]} . ولما تضمنت ترجمة المجد ، رحمه الله ، شقين ، أورد لكل أحاديث ، فمن قوله : " لا هجرة بعد الفتح " . الخ ، جميعه للشق الثاني . وهو قوله : و " أن لا هجرة من دار أسلم أهلها " ، إشارة للجمع بين هذه الأحاديث . وهو ظاهر .


[2167]:|8/ الأنفال/ 72| ونصها: (ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر الا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير72).
[2168]:أخرجه البخاري في: 56 –كتاب الجهاد، 1 –باب فضل الجهاد والسير، حديث 710 ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح. ولكن جهاد ونية. واذا استنفرتم فانفروا".
[2169]:أخرجه أبو داود في: 15 –كتاب الجهاد، 170 –باب في الاقامة بأرض الشرك، حديث 2787.
[2170]:أخرجه أبو داود في: 15 –كتاب الجهاد، 95 –باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، حديث 2645.
[2171]:أخرجه في المسند بالصفحة 99 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي) ونصه: عن أبي هند البجلي قال: كنا عند معاوية، وهو على سريره وقد غمض عينيه. فتذاكرنا الهجرة. والقائل منا يقول: قد انقطعت. والقائل منا يقول: لم تنقطع. فاستنبه معاوية. فقال: ما كنتم فيه؟ فأخبرناه. وكان قليل السرد على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: تذاكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة. ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
[2172]:وأخرجه أبو داود في: 15 –كتاب الجهاد، 2 –باب في الهجرة هل انقطعت؟، حديث 2479.
[2173]:أخرجه في المسند بالصفحة 270 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[2174]:أخرجه البخاري في: 56 –كتاب الجهاد، 1 –باب فضل الجهاد والسير، حديث 710. ومسلم في: 33 –كتاب الامارة، حديث 85 (طبعتنا). وأبو داود في: 15 –كتاب الجهاد، 2 –باب في الهجرة، هل انقطعت؟ حديث 2480. والترمذي في: 19 –كتاب السير، 32 –باب ما جاء في الهجرة. والنسائي في: 39 –كتاب البيعة، 15 –باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة.
[2175]:أخرجه البخاري في: 64 –كتاب المغازي، 53 –باب وقال الليث، حديث 1457.
[2176]:أخرجه البخاري في: 64 –كتاب المغازي، 53 –باب وقال الليث، حديث 1413 و1414. ومسلم في: 33 –كتاب الامارة، حديث 83 و84 (طبعتنا). وهذا نص البخاري: عن أبي عثمان قال: حدثني مجاشع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، بأخي، بعد الفتح. قلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: "اذهب أهل الهجرة بما فيها". فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: "أبايعه على الاسلام والايمان والجهاد". فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما. فسألته فقال: صدق مجاشع.