اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأُوْلَـٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا} (99)

قوله : { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } وفيه سُؤالان :

أحدهما : أن القَوْمَ [ لما ]{[9436]} كانوا عَاجِزِين عن الهِجْرَة ، والعَاجِز عن الشَّيْء غير مُكَلَّف له ، وإذا لم يَكُن مُكَلَّفاً ، لم يكن عَلَيْهِ في تَرْكه عُقُوبَة ، فلم قال : { عسى الله أن يعفو عنهم } والعفو لا يتصَوَّر{[9437]} إلاَّ مع الذَّنْبِ ، وأيضاً : " عَسَى " كلمة إطْمَاع ، وهذا يَقْتَضِي عدم القَطْعِ بحُصُول العَفْوِ .

فالجواب{[9438]} عن الأول : أن المُسْتَضْعَف قد يكُون قَادِراً على ذَلِكَ الشَّيْء مع ضرْبٍ من المَشَقَّة ، وتمييز الضَّعْف الذي يَحْصُل عنده الرُّخْصة عند الحَدِّ الذي لا يَحْصُل عنده الرُّخْصَة شاقٌّ ، فربما{[9439]} ظَنَّ الإنْسَان أنَّه عاجز عن المُهَاجَرة ، ولا يكون{[9440]} كَذَلِكَ ، ولا سِيَّمَا في الهِجْرة عن الوَطَنِ ؛ فإنها شَاقَّة على النَّفْس ، وبسبب شِدَّة النَّفْرَة قد يظن الإنْسَان كونه عَاجِزاً ، مع أنَّه لا يكُون كذلك ، فلهذا المَعْنَى كانت الحَاجَة في العَفْو شَدِيدة في هَذَا المقَامِ .

السؤال الثاني : ما فَائِدة ذكْر لَفْظَة " عَسَى " هَهُنا ؟

فالجواب : لأن فيها دَلاَلَة على [ أن ]{[9441]} ترك الهِجْرَة أمر مُضَيّق لا تَوْسِعة فيه ، حتى أن المُضْطَر البَيِّن الاضْطِرَار من حَقِّه أن يقُول : عسى الله أن يَعْفُو عني ، فكيف الحال في غَيْرِه ، ذكره الزَّمَخْشَرِي{[9442]} .

قال ابن الخَطِيب : والأولى{[9443]} أن يكون الجَوَاب ما تَقَدَّم من أن الإنْسَان لشدة نُفْرَته عن مُفَارَقََة الوَطَن ، رُبَّما ظَنَّ نَفْسَه عَاجِزاً عنها مع أنه لا يَكُون كَذَلِك ، فلهذا المَعْنَى ذكر العَفْوَ بكلمة " عَسَى " لا بالكَلِمَة الدَّالَّة على القَطْع .

قال المفَسِّرُون : وكلمة " عَسَى " من اللَّه وَاجِبٌ ؛ لأنه للإطْمَاع ، والله - تعالى - إذا أطْمَعَ عَبْدَه أوْصَلَه إليه .

ثم قال : { وكان الله غفوراً رحيماً } .

ذكر الزَّجَّاج{[9444]} في كان ثلاثة أوجه :

الأول : " كان " قَبْل أن خلق الخَلْق مَوْصُوفَاً بِهَذِه الصِّفَةِ .

الثاني : كان مع جَمِيع العِبَاد بِهذه الصِّفَة ، والمقصود بَيَان أن هذا عَادَة الله أجْرَاها في حَقِّ خلقه .

الثالث : أنه - تعالى - لو قال : " عفو غفور " كان هذا إخْبَاراً عن كَوْنِهِ كذلك فقط ، ولمَّا قال : إنَّه كان كَذَلِكَ ، فهذا إخْبَار وقع بِخَبَرِه على وَقْفِهِ ، فكان ذلك أدلَّ على كونه صِدْقاً [ وحَقّاً ]{[9445]} ومُبَرَّأ عن الكَذِب .

وقال ابن عباس : كُنْتُ أنا وأمِّي ممن عَذَرَ اللَّهُ [ يعني ]{[9446]} : من المستَضْعَفِيِن{[9447]} ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدْعُو لهؤلاءِ المسْتَضْعَفِين .

" روى أبو هُرَيْرَة ؛ قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقال : سَمِع الله لِمَنْ حَمِدَه في الرَّكْعَة الأخيرة{[9448]} [ من صَلاَةِ العِشَاء ]{[9449]} قنت{[9450]} : اللَّهمُ أنْجِ عيَّاش بن أبي رَبِيعَة ، اللَّهُم أنْجِ الوليدَ بن الوليدَ ، اللَّهُمَّ أنْج المسْتَضعَفِين{[9451]} من المؤمنين ، اللهم اشْدُدْ وطْأتَكَ على مُضَر ، اللهم اجْعَلْهَا عليهم سِنين كسِنِي يُوسُف " .


[9436]:سقط في ب.
[9437]:في أ: يتقرر.
[9438]:في ب: والجواب.
[9439]:في أ: شك فيها.
[9440]:في ب: وليس.
[9441]:سقط في ب.
[9442]:ينظر: تفسير الرازي 11/12.
[9443]:في أ: فالأولى.
[9444]:ينظر: تفسير الرازي 11/12.
[9445]:سقط في أ.
[9446]:سقط في أ.
[9447]:تقدم.
[9448]:في ب: الآخرة.
[9449]:سقط في ب.
[9450]:في أ: قلت.
[9451]:في ب: اللهم أنج سلمه بن هشام اللهم أنج المستضعفين.