{ 123 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وهذا أيضا إرشاد آخر ، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال ، أرشدهم إلى أنهم يبدأون بالأقرب فالأقرب من الكفار ، والغلظة عليهم ، والشدة في القتال ، والشجاعة والثبات .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى ، فلازموا على تقوى اللّه ، يعنكم وينصركم على عدوكم .
وهذا العموم في قوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا ، وأنواع المصالح كثيرة جدا .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن الجهاد في سبيل الله ، بدعوة المؤنمين إلى قتال أعدائهم بشدة وغلظة بشدة وغلظة فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ . . . } .
وقوله : { يَلُونَكُمْ } من الولى بمعنى القرب ، تقول جلست مما يلى فلان أى : يقاربه .
قال ابن كثير : أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا ، الأقرب فالأقرب ، إلى حوزة الإِسلام ، ولهذا بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتل المشكرين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة واليمن . . وغير ذلك من أقاليم العرب ، دخل الناس من سائر احياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب ، وأولى الناس بالدعوة إلى الإِسلام لأنهم أهل كتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس ، وجدب البلاد ، وضيق الحال ، ذلك سنة تسع من الهجرة ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ، ثم عاجلته المنية - صلوات الله وسلامه عليه - بعد حجة الوداع بأحد وثمانين يوما وسار خلفاؤه الراشدون من بعده على نهجه .
وقوله { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أى : وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا بأخيه المؤمن ، غليظا على عدوه الكافر . قال - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } وفى الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنا الضحوك القتال " يعنى أنه ضحوك في وجه وليه المؤمن ، قتال لهامة عدوه الكافر .
وقوله : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } تذييل قصد به خص المؤمنين على التسلح بسلاح الإِيمان والتقوى حتى ينالوا نصر الله وعونه .
أى : واعلموا أن الله - تعالى - مع المتقين بنصره ومعونته ، فاحرصوا على هذه الصفة ليستمر معكم نصره - سبحانه - وعونه .
وإنما أمر الله - تعالى - المؤمنين أن يبدأوا قتالهم مع الأقرب فالأقرب من ديارهم ، لأن القتال شرع لتأمين الدعوة الإِسلامية ، وقد كانت دعوة الإِسلام موجهة إلى القرب فالأقرب ، فكان من الحكمة أن يبدأوا قتالهم مع المجاورين لهم حتى يأموا شرهم ، ولأنه من المعلوم أنه ليس في طاقة المسلمين قتال جميع الكفار ، وغزو جميع البلاد في زمان واحد ، فكان من قرب أولى ممن بعد .
بعد ذلك ترد آية تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك . وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله [ ص ] وخلفاؤه من بعده بصفة عامة ، فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة :
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين ) . .
فأما خطة الحركة الجهادية التي تشير إليها الآية في قوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) . .
فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية ، تواجه من يلون " دار الإسلام " ويجاورونها ، مرحلة فمرحلة . فلما أسلمت الجزيرة العربية - أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة - كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم . ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس ، فلم يتركوا وراءهم جيوبا ؛ ووحدت الرقعة الإسلامية ، ووصلت حدودها ، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء ، متماسكة الأطراف ؛ . . ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها ، وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت ، أو على أساس القوميات ! وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون . وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام " أمة واحدة " في " دار الإسلام " المتصلة الحدود - وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان - ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها ، وإلى رايته الواحدة ؛ وإلا أن تتبع خطى رسول الله [ ص ]
وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين .
ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين ) . .
فنجد أمرا بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار . لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم . . وندرك أن هذا هو الأمر الأخير ، الذي يجعل " الانطلاق " بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد ، وليس هو مجرد " الدفاع " كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة
ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام ، وعن أحكام الجهاد في الإسلام ، وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن . . أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيدا من النصوص المرحلية السابقة ؛ فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء ! والنص القرآني بذاته مطلق ، وهو النص الأخير ! وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام ، أن يكون دقيقا في كل موضع ؛ وألا يحيل في موضع على موضع ؛ بل يتخير اللفظ المحدد ؛ ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص . إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص .
ولقد سبق لنا في تقديم السورة في الجزء العاشر ، وفي تقديم آيات القتال مع المشركين والقتال مع أهل الكتاب ، أن فصلنا القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على طبيعة المنهج الحركي للإسلام فحسبنا ما ذكرناه هناك .
إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام ، وعن أحكام الجهاد في الإسلام ، والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام ، يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام ! وأن يكون الله - سبحانه - قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار ، وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار ، كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار ! . . يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا ، فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة ؛ ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة !
إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو . .
إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في " سبيل الله " . . جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله . . جهاد لتحرير " الإنسان " من العبودية لغير الله ، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد . . ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) . . وأنه ليس جهادا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله . إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد ! وليس جهادا لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم ، إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد ! وليس جهادا لإقامة مملكة لعبد ، إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض . . ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في " الأرض " كلها ، لتحرير " الإنسان " كله . بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها . . فكلها " أرض " يسكنها " الإنسان " وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد !
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج ، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم . . إنها في هذا الوضع لا تستساغ ! وهي فعلا لا تستساغ ! . . لولا أن الأمر ليس كذلك . وليس لهشبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش ! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية . فليس لواحد منها أن يقول : إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء ! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية ؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعا من ذلة العبودية للعباد ؛ ويرفع البشر جميعا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك !
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوما صليبيا منظما لئيما ماكرا خبيثا يقول لهم : إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف ، وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية ؛ وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد !
والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة . . لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق . . إن الإسلام يقوم على قاعدة : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) . . ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهدا ؛ ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ( يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون )? . . إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد . . بل لأمر مناقض تماما للإكراه على العقيدة . . إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد ! . . لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد ؛ يواجه دائما طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد . ويواجه دائما أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد ؛ تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور ؛ وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية ؛ كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم ، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل . . وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله . . ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة ، ويدمر هذه القوى التي تحميها . . ثم ماذا ? . . ثم يترك الناس - بعد ذلك - أحرارا حقا في اختيار العقيدة التي يريدونها . إن شاءوا دخلوا في الإسلام ، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق ، وعليهم ما عليهم من واجبات ، وكانوا إخوانا في الدين للسابقين في الإسلام ! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية ، إعلانا عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة ؛ ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد ، وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء .
إن الإسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته ؛ كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها - كشعب الأندلس قديما وشعب زنجبار حديثا - لتكرههم على التنصر . وأحيانا لا تقبل منهم حتى التنصر ، فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون . . وأحيانا لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية . . وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفا من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بإنبثاق الروح القدس من الآب فقط ، أو من الآب والابن معا ! أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية ، أو طبيعة لاهوتية ناسوتية . . . إلى آخر هذه الجزيئات الإعتقادية الجانبية !
وأخيرا فإن صورة الإنطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيا في هذا الزمان وتتعاظمهم ؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الإنطلاق فيهولهم الأمر . . وهو يهول فعلا ! . . فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين ، وهم شعوب مغلوبة على أمرها ؛ أو قليلة الحيلة عموما ! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعا بالقتال ، حتى لا تكون فتنة ويكونالدين كله لله ? ! إنه لأمر لا يتصور عقلا . . ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلا !
ولكن فات هؤلاء جميعا أن يروا متى كان هذا الأمر ? وفي أي ظرف ? لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله ؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين ، ونظمت على أساسه . وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق ، فنصرها الله يوما بعد يوم ، وغزوة بعد غزوة ، ومرحلة بعد مرحلة . . وأن الزمان قد إستدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا [ ص ] ليدعو الناس - في جاهليتهم - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة . وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة . . وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول . . ثم يصلوا - يوم أن يصلوا - إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله . . ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء ؛ والذي تتقاسمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية . ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية : لا إله إلا الله . ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعارا ، ولا تتخذ لها مذهبا ولا منهجا من صنع العبيد في الأرض ؛ إنما تنطلق بإسم الله وعلى بركة الله . .
إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين ، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال ! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت !
إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين ، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة ! إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق . وحفظ ما في متون الكتب . والتعامل مع النصوص في غير حركة ، لا يؤهل لفقه هذا الدين ، ولم يكن مؤهلا له في يوم من الأيام !
وأخيرا فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين ) . .
تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم . . وهم أهل كتاب . . ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي ، بما في عقيدتهم من انحراف ، وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد . .
وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب ، المنحرفين عن كتابهم ، المحتكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم ! . . وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون - راضين - إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه ، في أي زمان وفي أي مكان !
ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة ، وعقب على هذا الأمر بقوله :
ولهذا التعقيب دلالته . . فالتقوى هنا . . التقوى التي يحب الله أهلها . . هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار ؛ وتقاتلهم في " غلظة " أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع . . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعا أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم - وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين - وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب !
إنه قتال يسبقه إعلان ، وتخيير بين : قبول الإسلام ، أو أداء الجزية ، أو القتال . . ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد - في حالة الخوف من الخيانة - [ والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية ؛ ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها ] .
وهذه آداب المعركة كلها ، من وصية رسول الله [ ص ] :
عن بريدة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله [ ص ] إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : " اغزوا باسم الله ، في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا . فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . وإن هم أبوا فسلهم الجزية . فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم . . . " . . . [ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : وجدت امراة مقتولة في بعض مغازي رسول الله [ ص ] فنهى رسول الله [ ص ] عن قتل النساء والصبيان . . [ أخرجه الشيخان ] .
وأرسل النبي [ ص ] معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن معلما فكانت وصيته له :
" إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب "
وأخرج أبو داود - بإسناده - عن رجل من جهينة . أن رسول الله [ ص ] قال : " لعلكم تقاتلون قوما فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم ، فيصالحونكم على صلح ، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح لكم " .
وعن العرباض بن سارية قال : " نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر ، ومعه من معه من المسلمين . وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا . فأقبل إلى النبي [ ص ] فقال : يا محمد ! لكم أن تذبحوا حمرنا ، وتأكلوا ثمرنا ، وتضربوا نساءنا ? فغضب رسول الله [ ص ] وقال : يا ابن عوف اركب فرسك ، ثم ناد : إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة . فاجتمعوا ، ثم صلى بهم ، ثم قام فقال : أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء ، إنها لمثل القرآن أو أكثر . وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم ، إذا أعطوا الذي عليهم " .
ورفع إليه [ ص ] بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف ، فحزن حزنا شديدا ، فقال بعضهم : ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين ؛ فغضب النبي [ ص ] ؛ وقال - ما معناه - إن هؤلاء خير منكم ، إنهم على الفطرة ، أو لستم أبناء المشركين . فإياكم وقتل الأولاد إياكم وقتل الأولاد .
وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده :
روى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال : ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ، ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما
وقال زيد بن وهب : أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه - وفيه : " لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا ، واتقوا الله في الفلاحين " .
ومن وصاياه ! " ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا ، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان ، وعند شن الغارات " .
وهكذا تتواتر الأخبار بالخط العام الواضح لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعدائه ، وفي آدابه الرفيعة ، وفي الرعاية لكرامة الإنسان . وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه . أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة ؛ وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة ، غير المحاربين أصلا ؛ وليست تمثيلا بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان . وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين ، ولاحترام بشرية المحاربين . إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة ؛ وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالرحمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب ، بقدر ما تقتضي حالة الحرب ، دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل .
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بإنذار عشيرته الأقربين ، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح . وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر . وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة . { وليجدوا فيكم غلظة } شدة وصبرا على القتال . وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان فيها . { واعلموا أن الله مع المتقين } بالحراسة والإعانة .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الآية ، قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل ، وقالت فرقة : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة ، وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه{[5975]} من الكفرة ، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام ، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد ، وقال قائلو هذه المقالة : نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم{[5976]} وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم ، وقال الحسن : هم الروم والديلم .
قال القاضي أبو محمد : يعني في زمنه ذلك ، وقاله علي بن الحسين ، وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }{[5977]} ، وقرأ جمهور الناس «غِلظة » بكسر الغين ، وقرأ المفضل عن عاصم والأعمش «غَلظة » بفتحها ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبان بن ثعلبة وابن أبي عبلة «غُلظة » بضمها ، وهي قراءة أبي حيوة ورواها المفضل عن عاصم أيضاً ، قال أبو حاتم رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو ، وفي هاتين القراءتين شذوذ وهي لغات ، ومعنى الكلام وليجدوا فيكم خشونة وبأساً ، وذلك مقصود به القتال ، ومنه { عذاب غليظ }{[5978]} و { غليظ القلب }{[5979]} و { غلاظ شداد }{[5980]} في صفة الزبانية ، وغلظت علينا كبده في حفر الخندق{[5981]} إلى غير ذلك ، ثم وعد تعالى في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو ، وقد قال بعض الصحابة : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب .