ثم إن هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ْ } فلذلك اقتضت رحمته وحكمته التخفيف ، . { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ } بعونه وتأييده .
وهذه الآيات صورتها صورة الإخبار عن المؤمنين ، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار ، وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم من الشجاعة الإيمانية .
ولكن معناها وحقيقتها الأمر وأن اللّه أمر المؤمنين - في أول الأمر - أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة ، والعشرة من المائة ، والمائة من الألف .
ثم إن اللّه خفف ذلك ، فصار لا يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار ، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار ، ولكن يرد على هذا أمران : .
أحدهما : أنها بصورة الخبر ، والأصل في الخبر أن يكون على بابه ، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع . .
والثاني : تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر .
ومفهوم هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين ، فإنه يجوز لهم الفرار ، ولو أقل من مثليهم [ إذا غلب على ظنهم الضرر ]{[354]} كما تقتضيه الحكمة الإلهية .
ويجاب عن الأول بأن قوله : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ْ } إلى آخرها ، دليل على أن هذا أمر{[355]} لازم وأمر محتم ، ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد ، . فهذا ظاهر في أنه أمر ، وإن كان في صيغة الخبر . .
وقد يقال : إن في إتيانه بلفظ الخبر ، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر ، . وهي تقوية قلوب المؤمنين ، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين . .
ويجاب عن الثاني : أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين ، أنه حث على الصبر ، وأنه ينبغي منكم أن تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك[ فإذا فعلوها صارت الأسباب الإيمانية والأسباب المادية مبشرة بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل ]{[356]}
ثم حكى - سبحانه - بعض مظاهر فضله على المؤمنين ورحمته بهم فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله } .
وقوله { ضَعْفاً } قرأه بعضهم بفتح الضاد ، وقرأه آخرون بضمها ، وهما بمعنى واحد عند الجمهور ، والمراد به الضعف في الدبن .
وقيل : الضعف - بالفتح يكون في الرأى والعقل ، وبالضم يكون في البدن .
والمعنى : لقد فرضنا عليكم - أيها المؤمنون - أول الأمر أن يثبت الواحد منكم أمام عشرة من الكافرين .
. والآن وبعد أن شق عليكم الاستمرار على ذلك ، ولم تبق هناك ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عددكم . . شرعنا لكم التخفيف رحمة بكم ، وراية لأحوالكم ، فأوجبنا عليكم أن يثبت الواحد منكم أمام اثنين من أعدئاكم بدلاً من عشرة ، وبشرناكم بأنه إن يوجد منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من أعدائكم ، وإن يوجد منكم ألف يغلبوا ألفين منهم بإذن الله وتيسيره وتأييده .
وقوله : { والله مَعَ الصابرين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أى : والله - تعالى - مع الصابرين بتأييده ورعايته ونصره ، فاحرصوا على أن تكونوا من المؤمنين الصادقين لتنالوا منه - سبحانه - ما يسعدكم في دنياكم وآخرتكم .
هذا ، ومن العلماء من يرى أن هذه الآية قد نسخت الآية السابقة عليها ، ومنهم من يرى غير ذلك .
قال الآلوسى : قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ . . } شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة ، والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا - بعون الله وتأييده - فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى .
والمعنى : ليصبرن الواحد لعشرة ؛ وليست بخير محض . .
وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ . . } أخرج البخارى وغيره عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : لما نزلت { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ } شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف وهل يعد نسخا أولا ؟ قولان : اختار بعضهم الثانى منها وقال : إن الآية مخففة ، ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر .
وذهب الجمهور إلى الأول ، وقالوا : إن الآية الثانية ناسخة للأولى . وقال بعض العلماء : فرض الله على المؤمنين أول الأمر ألا يفر الواحد من المؤمنين من العشرة من الكفار ، وكان ذلك في وسعهم ، فأعز الله بهم الدين على قلتهم ، وخذل بأيديهم المشركين على كثرتهم ، وكانت السرايا تهزم من المشركين أكثر من عشر أمثالها تأييداً من الله لدينه .
ولما شق على المؤمنين الاستمرار على ذلك ، وضعفوا عن تحمله ، ولم تبق ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عدد المسلمين ممن دخلوا في دين الله أفواجاً نزل التخفيف ، ففرض على الواحد الثبات للاثنين من الكفار ، ورخص له في الفرار إذا كان العدو أكثر من اثنين .
وهو رخصة كالفطر للمسافر ، وذهب الجمهور إلى أنه نسخ .
وقال الشيخ القاسمى : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغنى عن كفاية مائة لألف ، وكفاية مائة لمائتين تغنى عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للاثنين في الثانية فما سر هذا التكرير ؟
أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التقرير المفيد لزيادة الاطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل مث الأكثر على الترتيب الطبيعى .
وقيل في سر ذلك : إنه بشارة للمسلمين بأن جنود الإِسلام سيجاوز عددهم العشرات والمئات إلى الألوف .
ثم قال : وقال في البحر : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث اثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة ، وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أولى جملتى التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثخم ختمت بقوله : { والله مَعَ الصابرين } مبالغة في شدة المطلوبية ، وإشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتماً ، لأن من كان الله معه لا يغلب . .
وهذه النسبة . . واحد لعشرة . . هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون . . وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي : واحد لاثنين :
( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ، والله مع الصابرين ) . .
وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة ، وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف . . وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها . . فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق ؛ وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم ، وتثبت أقدامهم ؛ وليست أحكاماً تشريعية - فيما نرجح - والله أعلم بما يريد .
ثم جاء التخفيف ، فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ } إلى قوله : { يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } قال : خفف الله عنهم من العدة ، ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم .
وروى البخاري من حديث ابن المبارك ، نحوه{[13145]}
وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : كتب عليهم ألا يفر عشرون من مائتين ، ثم خفف الله عنهم ، فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين .
وروى البخاري ، عن علي بن عبد الله ، عن سفيان ، به ونحوه{[13146]}
وقال محمد بن إسحاق : حدثني ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفًا ، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } الآية ، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم{[13147]} لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم ، وإذا كانوا دون ذلك ، لم يجب عليهم قتالهم ، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم .
وروى علي بن أبي طلحة والعوفي ، عن ابن عباس ، نحو ذلك . قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، والضحاك نحو ذلك .
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، من حديث المسيب بن شريك ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } قال : نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وروى الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي عمرو بن العلاء ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } رفع ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[13148]}
{ الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين ، وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم ، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد والضعف ضعف البدن . وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فيها ، وفيه لغتان الفتح وهو قراءة عاصم وحمزة والضم وهو قراءة الباقين . { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون .
وروى المفضل عن عاصم «وعُلِمَ » بضم العين وكسر اللام على البناء للمفعول ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وابن عمرو والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق «ضُعْفاً » بضم الضاد وسكون العين ، وقرأ عاصم وحمزة وشيبة وطلحة «ضَعْفاً » بفتح الضاد وسكون العين ، وكذلك اختلافهم في سورة الروم{[5470]} ، وقرأ عيسى بن عمر «ضُعُفاً » بضم الضاد والعين وذكره النقاش ، وهي مصادر بمعنى واحد ، قال أبو حاتم : من ضم الضاد جاز له ضم العين وهي لغة ، وحكى سيبويه الضَّعْف والضُّعْف لغتان بمنزلة الفَقْر والفُقر ، حكى الزهراوي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : ضم الضاد لغة أهل الحجاز وفتحها لغة تميم ولا فرق بينهما في المعنى ، وقال الثعالبي في كتاب فقه اللغة له : الضَّعف بفتح الضاد في العقل والرأي ، والضُّعف بضمها في الجسم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ترده القراءة وذكره أبو غالب بن التياني غير منسوب ، وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع أيضاً «ضعفاء » بالجمع كظريف وظرفاء ، وحكاها النقاش عن ابن عباس ، وقوله { والله مع الصابرين } لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر ، ويلحظ منه وعيد لمن لم يصبر بأنه يغلب .
هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدّة . قال في « الكشّاف » : « وذلك بعد مدّة طويلة » . ولعلّه بعد نزول جميع سورة الأنفال ، ولعلّها وضعت في هذا الموضع لأنّها نزلت مفردة غير متّصلة بآيات سورة أخرى ، فجعل لها هذا الموضع لأنّه أنسب بها لتكون متّصلة بالآية التي نَسخت هي حكمَها ، ولم أر من عيّن زمن نزولها . ولا شكّ أنّه كان قبل فتح مكّة فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً محضاً لأنّها آية مستقلة .
و { الآن } اسم ظرف للزمان الحاضر . قيل : أصله أوان بمعنى زمان ، ولمّا أريد تعيينه للزمان الحاضر لازَمته لام التعريف بمعنى العهد الحضوري ، فصار مع اللام كلمة واحدة ولزمهُ النصب على الظرفية .
وروى الطبري عن ابن عبّاس : « كان لكلّ رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي أن يفرّ منهم ، وكانوا كذلك حتّى أنزل الله { آلآن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً } » الآية ، فعبّأ لكلّ رجل من المسلمين رجلين من المشركين ، فهذا حكم وجوب نسخ بالتخفيف الآتي ، قال ابن عطية : وذهب بعض الناس إلى أنّ ثبوت الواحد للعشرة إنّما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ثم حطَّ ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين . وروي هذا عن ابن عباس أيضاً . قلت : وكلام ابن عبّاس المروي عند ابن جرير مناف لهذا القول .
والوقت المستحضر بقوله : { آلآن } هو زمن نزولها . وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين ، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين ، لا أكثر ، رفقاً بالمسلمين واستبقاء لعددهم .
فمعنى قوله : { آلآن خفف الله عنكم } أنّ التخفيف المناسب لِيُسْر هذا الدين روعي في هذا الوقت ، ولم يراع قبله لمانع منَع من مراعاته فرُجّح إصلاح مجموعهم .
وفي قوله تعالى : { آلآن خفف الله عنكم } . وقوله : { وعلم أن فيكم ضعفا } دلالة على أنّ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشرمكين كان وجوباً وعزيمة وليس ندباً خلافاً لما نقله ابن عَطِية عن بعض العلماء . ونسب أيضاً إلى ابن عباس كما تقدّم آنفاً ، لأنّ المندوب لا يثقل على المكلّفين ، ولأنّ إبطال مشروعية المندوب لا يسمّى تخفيفاً ، ثم إذا أبطل الندب لزم أن يصير ثبات الواحد للعشرة مباحاً مع أنه تعريض الأنفس للتهلكة .
وجملة : { وعلم أن فيكم ضعفاً } في موضع الحال ، أي : خفف الله عنكم وقد علم من قبل أنّ فيكم ضعفاً ، فالكلام كالاعتذار على ما في الحكم السابق من المشقّة بأنّها مشقة اقتضاها استصلاح حالهم ، وجملة الحال المفتتحة بفعل مضي يغلب اقترانها ب ( قَد ) . وجعل المفسّرون موقع و { علم أن فيكم ضعفاً } موقع العطف فنشأ إشكال أنّه يوهم حدوث علم الله تعالى بضعفهم في ذلك الوقت ، مع أنّ ضعفهم متحقّق ، وتأوّلوا المعنى على أنّه طرأ عليهم ضعف ، لما كثر عددهم ، وعلمه الله ، فخفّف عنهم ، وهذا بعيد لأنّ الضعف في حالة القلّة أشدّ .
ويحتمل على هذا المحمل أن يكون الضعفُ حدث فيهم من تكرّر ثبات الجمع القليل منهم للكثير من المشركين ، فإنّ تكرر مزاولة العمل الشاقّ تفضي إلى الضجر .
والضعفُ : عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقّة ، ويكون في عموم الجسد وفي بعضه وتنكيره للتنويع ، وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلّة ، وجعْله مدخول ( في ) الظرفية يومىء إلى تمكّنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في الكليف .
ويجوز في ضاد ( ضعف ) الضمّ والفتح ، كالمُكث والمَكثثِ ، والفُقر والفَقر ، وقد قرىء بهما ؛ فقرأه الجمهور بضمّ الضاد وقرأه عاصم ، وحمزة ، وخلف بفتح الضاد .
ووقع في كتاب « فقه اللغة » للثعالبي أنّ الفتح في وهن الرأي والعقللِ ، والضم في وهن الجسم ، وأحسب أنّها تفرقة طارئة عند المولّدين .
وقرأ أبو جعفر { ضُعَفاء } بضمّ الضاد وبمدّ في آخره جمعَ ضعيف .
والفاء في قوله : { فإن تكن منكم مائة صابرة } لتفريع التشريع على التخفيف .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب { تكن } بالمثناة الفوقية . وقرأه البقية بالتحتية للوجه المتقدّم آنفاً .
وعبّر عن وجوب ثبات العدد من المسلمين لمثليْه من المشركين بلفظي عددين معيّنين ومِثْليْهما : ليجيء الناسخ على وفق المنسوخ ، فقوبل ثبَات العشرين للمائتين بنسخه إلى ثَبات مائة واحدة للمائتين فأُبقِيَ مقدار عدد المشركين كما كان عليه في الآية المنسوخة ، إيماء إلى أنّ موجب التخفيف كثرة المسلمين ، لا قلّة المشركين ، وقوبل ثبات عدد مائة من المسلمين لألف من المشركين بثبات ألف من المسلمين لألفين من المشركين إيماء إلى أنّ المسلمين الذين كان جيشهم لا يتجاوز مرتبة المئات صار جيشهم يعدّ بالآلاف .
وأعيد وصف مائة المسلمين ب { صابرة } لأنّ المقام يقتضي التنويه بالاتّصاف بالثبات .
ولم توصف مائة الكفّار بالكفر وبأنّهم قوم لا يفقهون : لأنّه قد عُلم ، ولا مقتضي لإعادته .
و { إذنُ اللَّه } أمره فيجوز أن يكون المراد أمرَه التكليفي ، باعتبار ما تضمّنه الخبر من الأمر ، كما تقدّم ، ويجوز أن يراد أمره التكويني باعتبار صورة الخبر والوعد .
والمجرور في مَوقع الحال من ضمير { يغلبوا } الواقع في هذه الآية . وإذن الله حاصل في كلتا الحالتين المنسوخة والناسخة . وإنّما صرّح به هنا ، دون ما سبق ، لأنّ غلبَ الواحد للعشرة أظهر في الخرق للعادة ، فيعلم بدْءاً أنّه بإذن الله ، وأمّا غلبَ الواحد الاثنين فقد يحسب ناشئاً عن قوة أجساد المسلمين ، فنبّه على أنّه بإذن الله : ليعلم أنّه مطّرد في سائِر الأحوال ، ولذلك ذيّل بقوله : { والله مع الصابرين }
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 65]
عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنْ يَّكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ} فكتب عليهم أن لا يفر العشرون من المائتين، فأنزل الله عز وجل: {اَلَـانَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفا فَإِن تَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ} فخفف عنهم، وكتب عليهم أن لا يفر المائة من المائتين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 65]
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها النّبِيّ حَرّضِ المُؤْمِنِينَ على القِتالِ": حُثّ متبعيك ومصدقيك على ما جئتهم به من الحق على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين؛ "إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرُونَ "رجلاً "صَابِرُونَ "عند لقاء العدوّ، يحتسبون أنفسهم ويثبتون لعدوّهم "يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ" من عدوّهم ويقهروهم، "وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ" عند ذلك "يَغْلِبُوا" منهم ألفا. "بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب ولا لطلب أجر ولا احتساب لأنهم لم يفقهوا أن الله موجب لمن قاتل احتسابا وطلب موعودا لله في المعاد ما وعد المجاهدين في سبيله، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم. ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين إذ علم ضعفهم فقال لهم: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا" يعني أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوّهم ضعفا؛ "فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابرَةٌ" عند لقائهم للثبات لهم، "يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ" منهم، "وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ" منهم "بإذْنِ اللّهِ" يعني بتخلية الله إياهم لغلبتهم ومعونته إياهم. "وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ" لعدوّهم وعدوّ الله، احتسابا في صبره وطلبا لجزيل الثواب من ربه، بالعون منه له والنصر عليه...
عن عطاء... قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين لا ينبغي له أن يفرّ منهما...
عن عبد الله بن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين ومئة ألفا، فخفف الله عنهم، فنسخها بالآية الأخرى فقال: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ" قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوّهم لم ينبغ لهم أن يفرّوا منهم، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم...
وأما قوله: "بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" فقد بيّنا تأويله.
وكان ابن إسحاق يقول...: أي لا يقاتلون على نية، ولا حقّ فيه، ولا معرفة لخير ولا شرّ.
وهذه الآية، أعني قوله: "إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ" وإن كان مخرجها مخرج الخبر، فإن معناها الأمر، يدلّ على ذلك قوله: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ" فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل، ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوّهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف وكان ندبا لم يكن للتخفيف وجه لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوت للعشرة من العدوّ، وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدما لم يكن للترخيص وجه، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن حكم قوله: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا" ناسخ لحكم قوله: "إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فإن قيل: ما معنى قوله (وعلم أن فيكم ضعفا) وقد كان يعلم أن فيهم ضعفا وقت ما أمر العشرة القيام لمئة والعشرين لمئتين؟ قيل: أمر بذلك مع علمه أن فيهم ضعفا، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسهم، وذلك منه عدل، إذ له الأنفس، إن شاء أتلفها بالموت، وإن شاء بالقتل بقتل العدو. والتخفيف منه رحمة وفضل؛ أمر الواحد القيام لعشرة على علم منه بالضعف ابتداء الامتحان منه، وله أن يمتحن عباده بما فيه وسعهم وبما لا وسع لهم فيه. وفي الحكمة ذلك، إذ له الأنفس، له أن يتلفها كيف شاء بما شاء؛ وهو ما ذكر قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) [النساء: 66] ولو لم يكن له في الحكمة ذلك لا يحتمل أن يكتب ذلك عليهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والضَّعْفُ الذي علم فيهم كان ضَعْفَ الأشباح فخفَّفَ عنهم، أما القلوبُ فلم يتداخلها الضعف فحُمِلَ من ممارسة القتال بالعذر المذكور في الكتاب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وعن ابن جريج: كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب. قيل: ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه، وذلك بعد مدّة طويلة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف... والمراد بالضعف: الضعف في البدن. وقيل: في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك
فإن قلت: لم كرّر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرّتين قبل التخفيف وبعده؟ قلت: للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت؛ لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْلُهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}: أَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ حَطُّ الثِّقَلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فَمَعْنَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْآنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ عَالِمًا لَيْسَ لِعِلْمِهِ أَوَّلُ، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ الْبَارِيَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ، إذَا كَانَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَالِمُ الشَّهَادَةِ، وَبَعْدَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ بِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِالْمَعْلُومَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَيَّرُ.
وَقَدْ ضَرَبْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا يَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ النَّاظِرُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَعْلَمُ الْيَوْمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا، ثُمَّ يَرَاهَا طَالِعَةً، ثُمَّ يَرَاهَا غَارِبَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ من هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِلْمٌ مُجَدَّدٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا بَقَاءَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَعِلْمُ الْبَارِي وَاجِبُ الْأَوَّلِيَّةِ، وَاجِبُ الْبَقَاءِ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ؛ فَانْتَظَمَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَتَمَكَّنَتْ بِهَا -وَالْحَمْدُ لِلَّهِ- الْمَعْرِفَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَلَمَّا خَفَّفَ عَنَّا أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ الثَّبَاتَ لِرَجُلَيْنِ، وَهَكَذَا مَا تَزَايَدَتْ النِّسْبَةُ الْوَاحِدَةُ بِاثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمَا، وَيَتَقَدَّمَانِ إلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَهْجُمُ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَطْعَنُهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ بَقِيَ وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ، وَإِنْ اقْتَتَلَا فَقَدْ حَصَلَ دَمُ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ، وَبَقِيَ الزَّائِدُ لَغْوًا، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الصَّبْرِ، وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَلْقَى عَشَرَةً قَالَ: وَاسِعٌ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مُعَسْكَرِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُمْ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَا يَقْتَحِمُ الْوَاحِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَا الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْقَاءَ الْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَكَانَ كُلُّ رَجُلٍ بِاثْنَيْنِ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الآن خفف الله} أي الملك الذي له الغنى المطلق وجميع صفات الكمال {عنكم} أي رحمة لكم ورفقاً بكم {وعلم} أي قبل التخفيف وبعده {أن فيكم ضعفاً} أي في العَدد والعُدد، ولكنه أوجب عليكم ذلك ابتلاء، فبعد التخفيف علم ضعفهم واقعاً وقبله علم أنه سيقع...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وبعد أن بين الله تعالى هذه المرتبة العليا للمؤمنين التي ينبغي أن تكون لهم في حال القوة وهو ما يسمى بالعزيمة، قفى عليه ببيان ما دونها من مرتبة الضعف وهي ما يسمى الرخصة، فقال:
{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}... وقد تقدم بيان حال ضعفاء المسلمين الذين كانوا يكرهون القتال في بدر وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى في هذه السورة: {يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} [الأنفال: 6] فالضعف على هذا عام يشمل المادي والمعنوي، والمعنى أن أقل حالة المؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين، وأن هذه الحالة رخصة خاصة بحال الضعف، كما كان عليه المؤمنون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر.
فقد تقدم أن المؤمنين كانوا لا يجدون ما يكفيهم من القوت، ولم يكن لديهم إلا فرس واحد، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب، ومع هذا كله كانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي العدة والأهبة. ولما كملت للمؤمنين القوة، كما أمرهم الله تعالى أن يكونوا في حال العزيمة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وهل تم لهم فتح ممالك الروم والفرس وغيرهم إلا بذلك؟ وكان القدوة الأولى في ذلك أصحاب رسول الله (صلوات الله وسلامه عليهم) في عهده ومن بعده! كان الجيش الذي بعثه صلى الله عليه وسلم إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله (الحارث بن عمير الأزدي) إلى أمير بصرى ثلاثة آلاف، وأقل ما روي في عدد الجيش الذي قاتلهم من الروم ومنتصرة العرب مائة وخمسون ألفا، وروى الواحدي في البسيط أنه كان مائة ألف من الروم ومائة ألف من عرب لخم وجذام، فمن شك أو شكك في هذين العددين من المسلمين والروم في هذه الغزوة فماذا يقول في وقعة اليرموك الشهيرة؟
روى المؤرخون أن الجموع التي جمعها هرقل للمعركة الفاصلة فيها بينه وبين العرب من الروم والشام والجزيرة وأرمينية كانت زهاء مائتي ألف وكان يأتيها المدد خشية الهزيمة وكان عدد جيش الصحابة رضي الله عنهم أربعة وعشرين ألفا، ورووا أن قتلى الروم بلغت سبعين ألفا فمن شك أو مارى في العدد في هذه المعركة وغيرها من المعارك، المعينة فهل يمكنه أن يماري في القدر المشترك في جملة المعارك التي فتح بها الصحابة رضي الله عنهم تلك الممالك الواسعة على قلة عددهم، وكونهم كانوا في مجموعها أو أكثرها أقل من عشر أعدائهم؟ أنى وهو عين التواتر المعنوي الذي يفيد علم اليقين؟
وأما قوله تعالى في تعليل هذا الغلب (بإذن الله) فقد فسروه هنا بإرادته ومشيئته تعالى، وأصل الإذن في اللغة إباحة الشيء والرخصة في فعله ولا سيما إذا كان الشأن فيه أن يكون ممنوعا فيكون حاصل الإذن إزالة المنع وهي إما أن تكون بالقول لمن يقدر على الفعل، وإما أن تكون بالفعل لمن لا يقدر عليه، فالإذن من الله تعالى إما أمر تكليف أو إباحة وترخيص، وهو من متعلق صفة الكلام فالأول كقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39] وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء:64] والثاني كقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه] [البقرة:255] وقوله: {يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه} [هود: 105].
وإما أمر تكوين أي بيان لسنة الله تعالى أو فعله أو تقديره أو إقداره لمن شاء على ما شاء فيكون من متعلق الإرادة ومن متعلق القدرة كقوله تعالى للمسيح عليه السلام {وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني} [المائدة:110] وقوله: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [الأعراف:58] أي بقدرته وإرادته وكقوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة:249] أي بإقداره ومعونته وتوفيقه، وفي معناها هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقد ختم كل منهما بقوله تعالى: {والله مع الصابرين} وهذه المعية لا ندرك حقيقتها وكنهها وإنما نعلم علم يقين أن من كان الله تعالى معه فهو الغالب المنصور ولن يغلبه أحد، فنفسرها بمعية المعونة والنصر، كما تقدم في تفسير مثل هذه الجملة من الآية 46 من هذه السورة في سياق الحرب وغزوة بدر، وقد أحلت فيه على تفسير مثل تلك الجملة من سورة البقرة وهو قوله: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة:153] وقد قلت هناك: ثم قال: {إن الله مع الصابرين} ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم. ومن المفيد أن يراجع القارئ تفسير تلك الآية (في ج 2 تفسير) فإنه يفيد في إتمام معنى ما هنا.
وذهب المفسرين إلى أن آية العزيمة من هاتين الآيتين منسوخة بآية الرخصة التي بعدها بدليل التصريح بالتخفيف فيها، ولكن الرخصة لا تنافي العزيمة ولا سيما وقد عللت هنا بوجود الضعف. ونسخ الشيء لا يكون مقترنا بالأمر به وقبل التمكن من العمل به، وظاهر أن الآيتين نزلتا معا. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف فقال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} قال فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم اهـ.
قال الحافظ في الفتح في شرح الجملة الأخيرة: كذا في رواية ابن المبارك، وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند الإسماعيلي: نقص من النصر اهـ وأقول معنى الرواية الأولى أن الصبر في مقاتلة الضعفين دون الصبر في مقاتلة العشرة الأضعاف بهذه النسبة العددية. ومعنى الرواية الثانية أن النصر على الضعفين أقل أو أنقص من الصبر على العشرة الأضعاف، وكلاهما لازم ضروري للآخر. وهذه الرواية لا تدل على النسخ الأصولي الذي زعمه بعضهم على ما بيناه من كون الآية الأولى عزيمة أو مقيدة بحال القوة، والثانية رخصة مقيدة بحال الضعف، وما رواه ابن مردويه من طريق إسحاق بن راهويه عن عطاء عنه وفيه التصريح بالنسخ قال الحافظ: في سنده محمد بن إسحاق وليست هذه القصة عنده مسندة بل معضلة وصنيع ابن إسحاق وتبعه الطبراني وابن مردويه يقتضي أنها موصولة والعلم عند الله تعالى اهـ.
وأقول: حسبنا أن الحافظ لم يقف لها على سند متصل. على أن النسخ في عرف الصحابة أعم من النسخ المصطلح عليه في الأصول، وجمهور الفقهاء يجعلون حكم الثانية الوجوب وحكم الأولى الندب، ويستدلون على ذلك بتفسير ابن عباس الذي جعل بعضهم لروايته حكم الحديث المرفوع. قال الحافظ في الفتح: وهذا قاله الحافظ توقيفا على ما يظهر ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء اهـ ونقول إن التوقيف من الشارع مستبعد أن يختص به ابن عباس الذي كان عند نزول السورة صغير السن فلم يحضر غزوة بدر ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقوله فيها يومئذ، وكونه سمعه بعد سنين ولم يصرح بسماعه مستبعد جدا، فالوجه المختار أن ما قاله ابن عباس فهم منه معناه إن قتال المثلين فرض، لا ينافي أن قتال العشرة ندب، وقد عبر عنه بعض رواته بالنسخ.
وقال الحافظ في أحكام الحديث من الفتح عند قوله:« فجاء التخفيف» ما نصه:
في رواية الإسماعيلي فنزلت الآية الأخرى وزاد: ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثليهم. واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما سواء طلباه أو طلبهما: وسواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر. وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس ورجحه ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية الربيع، ولفظه ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت: قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه إنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين. ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما، وإن طلبهما فهل يحرم؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن، وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار. أما المنفرد وحده بغير العسكر فلا، لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه سرية وحده، وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين واستدل ابن عباس في بعضها بقوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} [البقرة: 207] وبقوله تعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} [النساء: 84] اهـ.
ومن مباحث القراءات اللفظية في الآيتين أن ابن كثير ونافعا وابن عامر قرأوا « يكن» المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء على التأنيث اللفظي ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في «يكن» التي في الآية الثانية، وأما « يكن» المسند إلى «عشرون صابرون» يقرأها الجميع بالتذكير لأن المسند إليه جمع مذكر موصوف بمثله.
ومن مباحث البلاغة فيهما أن المعنى المراد في تفضيل المؤمنين على الكافرين في القتال مقيد بأن يكون المؤمنون صابرين دون الكافرين أو فوق صبرهم، ويكون الكافرون من الذين لا يفقهون من المقاصد الدينية والاجتماعية ما يفقه المؤمنون. فكان من إيجاز القرآن أن في الآية الأولى أن قيد العشرين بوصف صابرين ولم يقيد بذلك المائة، وقيد الغلب في قتال المائة للألف بأن يكون للذين كفروا الذين وصفهم بأنهم قوم لا يفقهون، ولم يذكر هذا القيد في غلب العشرين للمائة منهم وكل من القيدين مراد فأثبت في كل من الشرطين ما حذف نظيره في الآخر وهو ما يسمى في البديع بالاحتباك. ثم إنه وصف المائة في آية التخفيف بالصابرة لأن الصبر شرط لا بد منه في كل حال وكل عدد مع عدم وصف المائة به في الأولى لئلا يتوهم أنه شرط في العدد القليل كالعشرين دون الكثير كالمائة والألف، ولم يذكره في الألف استغناء بما قبله وبما بعده من قوله: {والله مع الصابرين} وهو مع قوله قبله: {بإذن الله} يدل على أن سنة الله تعالى في الغلب أن يكون للصابرين على غير الصابرين، وكذا على من هم أقل منهم صبرا، وفي هذا تحذير للمؤمنين من الغرور بدينهم لئلا يظنوا أن الإيمان وحده يقتضي النصر والغلب وإن لم يقترن بصفاته اللازمة لكماله، ومن أعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور وسنن الله تعالى في الخلق المعبر عنه هنا بالفقه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق؛ وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم، وتثبت أقدامهم؛ وليست أحكاماً تشريعية -فيما نرجح- والله أعلم بما يريد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والوقت المستحضر بقوله: {آلآن} هو زمن نزولها. وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين، لا أكثر، رفقاً بالمسلمين واستبقاء لعددهم.
فمعنى قوله: {آلآن خفف الله عنكم} أنّ التخفيف المناسب لِيُسْر هذا الدين روعي في هذا الوقت، ولم يراع قبله لمانع منَع من مراعاته فرُجّح إصلاح مجموعهم.
وفي قوله تعالى: {آلآن خفف الله عنكم}. وقوله: {وعلم أن فيكم ضعفا} دلالة على أنّ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين كان وجوباً وعزيمة وليس ندباً خلافاً لما نقله ابن عَطِية عن بعض العلماء. ونسب أيضاً إلى ابن عباس كما تقدّم آنفاً، لأنّ المندوب لا يثقل على المكلّفين، ولأنّ إبطال مشروعية المندوب لا يسمّى تخفيفاً، ثم إذا أبطل الندب لزم أن يصير ثبات الواحد للعشرة مباحاً مع أنه تعريض الأنفس للتهلكة.
وجملة: {وعلم أن فيكم ضعفاً} في موضع الحال، أي: خفف الله عنكم وقد علم من قبل أنّ فيكم ضعفاً، فالكلام كالاعتذار على ما في الحكم السابق من المشقّة بأنّها مشقة اقتضاها استصلاح حالهم، وجملة الحال المفتتحة بفعل مضي يغلب اقترانها ب (قَد). وجعل المفسّرون موقع و {علم أن فيكم ضعفاً} موقع العطف فنشأ إشكال أنّه يوهم حدوث علم الله تعالى بضعفهم في ذلك الوقت، مع أنّ ضعفهم متحقّق، وتأوّلوا المعنى على أنّه طرأ عليهم ضعف، لما كثر عددهم، وعلمه الله، فخفّف عنهم، وهذا بعيد لأنّ الضعف في حالة القلّة أشدّ.
ويحتمل على هذا المحمل أن يكون الضعفُ حدث فيهم من تكرّر ثبات الجمع القليل منهم للكثير من المشركين، فإنّ تكرر مزاولة العمل الشاقّ تفضي إلى الضجر.
والضعفُ: عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقّة، ويكون في عموم الجسد وفي بعضه وتنكيره للتنويع، وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلّة، وجعْله مدخول (في) الظرفية يومئ إلى تمكّنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في التكليف.
... وعبّر عن وجوب ثبات العدد من المسلمين لمثليْه من المشركين بلفظي عددين معيّنين ومِثْليْهما: ليجيء الناسخ على وفق المنسوخ، فقوبل ثبَات العشرين للمائتين بنسخه إلى ثَبات مائة واحدة للمائتين فأُبقِيَ مقدار عدد المشركين كما كان عليه في الآية المنسوخة، إيماء إلى أنّ موجب التخفيف كثرة المسلمين، لا قلّة المشركين، وقوبل ثبات عدد مائة من المسلمين لألف من المشركين بثبات ألف من المسلمين لألفين من المشركين إيماء إلى أنّ المسلمين الذين كان جيشهم لا يتجاوز مرتبة المئات صار جيشهم يعدّ بالآلاف.
وأعيد وصف مائة المسلمين ب {صابرة} لأنّ المقام يقتضي التنويه بالاتّصاف بالثبات.
ولم توصف مائة الكفّار بالكفر وبأنّهم قوم لا يفقهون: لأنّه قد عُلم، ولا مقتضي لإعادته.
و {إذنُ اللَّه} أمره فيجوز أن يكون المراد أمرَه التكليفي، باعتبار ما تضمّنه الخبر من الأمر، كما تقدّم، ويجوز أن يراد أمره التكويني باعتبار صورة الخبر والوعد.
والمجرور في مَوقع الحال من ضمير {يغلبوا} الواقع في هذه الآية. وإذن الله حاصل في كلتا الحالتين المنسوخة والناسخة. وإنّما صرّح به هنا، دون ما سبق، لأنّ غلبَ الواحد للعشرة أظهر في الخرق للعادة، فيعلم بدْءاً أنّه بإذن الله، وأمّا غلبَ الواحد الاثنين فقد يحسب ناشئاً عن قوة أجساد المسلمين، فنبّه على أنّه بإذن الله: ليعلم أنّه مطّرد في سائِر الأحوال، ولذلك ذيّل بقوله: {والله مع الصابرين}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر الله تعالى مدى جهاد المؤمنين إن كانوا جمعا قد تحلى بالقوة التي قوامها الصبر والألفة، والعزة من الله، وقد ذكر قوتها إذا عراها ضعف؟، والضعف يكون بأن يعروها ما يناقض أسباب القوة.
فقال تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ}
كان هذا التناسب في العدد الذي ذكره القرآن من أن العشرين الصابرين فيهم كفاية لمئتين، كان ذلك في حال القوة المؤمنة، وتلك القوة تقوم على الاتحاد والائتلاف، وعلى قوة الإيمان بالنصر والتأييد من الله تعالى وعلى قوة العزم والتوكل عليه سبحانه، وعلى الرغبة في إحدى الحسنين النصر أو الاستشهاد، وفيه حياة، فمن كانوا على هذه الحال كانوا الأقوياء حقا وصدقا.
أما إذا كان الضعف فقد خف الله النسبة؛ ولذا قال تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}.
وقوله تعالى: {خفف عنكم} فيه إشارة إلى أن التناسب العددي فيه تكليف بالثبات لما يناسبه من عدد، فالعشرون مكلفون أن يثبتوا أمام مائتين وقد ذكرنا أن ذلك مطلوب، إما بالقصد الصريح، أو بالتضمن وقد بين معنى القوة، فلنشر إلى معنى الضعف، وهو ألا يكون ائتلاف قويا، وألا يكون العزم صادقا وأن يكون فيهم ضعفاء الإيمان ومنافقون، وقد بدا ذلك واضحا في غزوة أحد، فقد كان في جيش تردد في الخروج من المدينة ابتداء، وكان في بعضهم ميل إلى المادة، وكان في بعضهم ضعفاء الإيمان، وكان فيهم منافقون، ولم يكن في بعضهم صدق، وكان الصادقون قوته؛ ولذا في أول الأمر همت طائفتان أن تفشلا، والله وليهما.
ولذلك لم يكن النصر المؤزر كما كان في بدر؛ إذ لم يكن الأقوياء الذين غير بهم وجه القوة في البلاد العربية هذا هو الضعف، وذاك هو العزة، وخفف الله التكليف في تناسب العدد في حال الضعف، فجعل المائة تغلب مائتين. وقال تعالى في ذلك: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ}، أي أن التكليف يكون بأنه إذا كان مائة لا يجوز أن يفروا من مائتين، بل عليهم أن يثبتوا، وإن كان ألف يجب أن يثبتوا أمام الألفين.
والتخفيف هو تخفيف التكليف، و تخفيف التكليف لا يمكن أن يعد نسخا، وقد يعد ترخيصا من عزيمة وهي الأصل، ولم يقل: ألف صابرة، أي لم يذكر وصف الصبر، اكتفاء بذكره أولا، وذلك شأن الكلام البليغ موجز حيث يوجد ما يدل على المضمون.
وذكر المائة في مقابل المائتين، كما ابتدأ في الآية الماضية ذكر العشرين ابتداء، وذلك من التخفيف؛ لأن العشرين مع القدرة عدد مناسب للسرايا ونحو ذلك، فلا يرسل فيها إلا الأقوياء، ولا يرسل فيها من يكون فيه ضعف، إلا بعدد كثير، فكان ذكر المائة كحد أدنى، لجماعة فيهم ضعف.
ومع قلة التناسب في العدد في حال وجود الضعف، لا يكون النصر بقوتهم الذاتية، إنما يكون النصر بإذنه أي بتوفيقه وتوجيهه، وهو لازم في كل الأحوال في حال القوة، وإن كان هناك ضعف، وصرح به هنا لأنه واضح بأنه من أسباب النصر، أو سببه في حال ما إذا كان ضعف.
ومن الناس من شغف بإثبات النسخ في القرآن فيفرضون النسخ لأوهى معارضة لفظية، كما فرضوا النسخ في آيات الصيام، ولا معارضة بين آياته، وكما فرضوا النسخ بين الآيتين، وكان المعنى بين الآيات واحد يكمل بعضه بعضا، كذلك ادعوا النسخ هنا، فافترضوه لمجرد التخالف التقديري بين الآيتين، وادعوا أن الثانية ناسخة للأولى مع أنه لا تعارض بين الآيتين، إن الأولى ذكرت ذلك العدد في حال القوة، والتآلف بين المؤمنين، والثانية خف فيها العدد الأول لحال الضعف، والجهة منفكة بينهما.
وهكذا بين أو مسلم الأصفهاني ونفى أن يكون النسخ بينها سيرا على مبدئه الذي انتهى إليه أنه لا نسخ في القرآن قط، وأن القرآن ينسخ غيره، ولا ينسخ حكمه أبدا...
والحق أن الآيتين حكمهما خالد دائم إلى يوم القيامة، وهو أنه في حال القوة يكون العشرون كفء المئتين وفي حكم الضعف بالأسباب التي ذكرناها، أو بعضها – يكون المائة في مقابل مائتين.
ولقد قال تعالى في نصر المائة أمام مائتين، والألف أمام الألفين: {بإذن الله} وفي الواقع كان نصر إنما هو بإذن الله، ولكن ذكر هنا، ولم يذكر في الآية الأولى للإشارة إلى أن الضعف والتخاذل لا يكون معه نصر إلا إذا كان ثمة إذن الله، للحث على منع التخاذل والتنازع والتردد، واتقاء كل أسباب الضعف والله يؤيد من يشاء بغير حساب.لا ى
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: {والله مع الصابرين} والمعنى في ذلك: والله تعالى بجلاله وقوته وتأييده مع الصابرين، وهذه المعية السامية تجعل الصابر مطمئنا إلى النصر لا محالة لسببين:
أولهما – أن الله معه، ومن يكون الله معه تكون معه القوة كلها، فلا تقف أمامها قوة في الأرض فكيف يغلب، إنها تدرأ العجز، وتغلب القوة، بل يجعل من الضعف قوة فيكون النصر.
ثانيهما – أن الصبر يقرب من الله؛ لأن فيه ضبط النفس عن الهوى، وعن الجزع يوم الفزع، والقرب من الله لشد العزائم، وتثبت القلوب.
وإن الله تعالى يحب الصابرين، والمحبة أعلى من الرضى الذي هو أكبر الجزاء، فالمحبة أكبر من الرضوان.