ثم يحدثنا القرآن بعد ذلك عن عدالة الله فى أحكامه ، وعن سعة غناه ورحمته ، وعن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء مصير الكافرين فيقول : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ . .
قال الآلوسى : " ذلك " إشارة إلى إتيان الرسل ، أو السؤال المفهوم من { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أو ما قص من أمرهم ، أعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أى : الأمر ذلك ، أو مبتدأ خبره مقدر ، أو خبره قوله - سبحانه - { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى } بخلاف اللام على أن { أَن } مصدرية ، أو مخففة من أن وضمير الشأن اسمها .
وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ ذلك ، أو فعلنا ذلك .
وفى قوله { بِظُلْمٍ } متعلق بمهلك أى : بسبب ظلم . أو بمحذوف وقع حالا من القرى أى : ملتبسة بظلم . . . " .
والمعنى : ذلك الذى ذكرناه لك يا محمد من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله ، سببه أن ربك لم يكن من شأنه ولا من سننه فى تربية خلقه أن يهلك القرى من أجل أى ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه ، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين ، فربك لا يظلم ، ولا يعذب أحداً وهو غافل لم ينذر قال - تعالى - { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وقال - تعالى - { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } فالآية الكريمة صريحة فى أن - سبحانه - قد أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتبيين الآيات ، وإلزام الحجة { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل }
وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] ومن وراءه من المؤمنين ؛ وإلى الناس أجمعين ؛ ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن ؛ وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار ؛ وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم ، تقص عليهم آيات الله ، وتنذرهم لقاء يومهم هذا . . ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه ، بأن عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار ؛ وأن الله لا يأخذ العباد بظلمهم [ أي بشركهم ] إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم ؛ وتقص عليهم الآيات ، وينذرهم المنذرون :
( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى - بظلم - وأهلها غافلون ) . .
لقد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل ، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها - فقد تضل هذه الفطر - وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك -
فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات - وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات - فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري .
لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام لا واستنقاذ العقل من الانحراف ، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس . وجعل العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار .
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله ، كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل ؛ وتقرر أنها - وحدها - لا تعصم من الضلال ، ولا تهدي إلى يقين ، ولا تصبر على ضغط الشهوات . .
يقول تعالى : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } أي : إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يعاقب أحد بظلمه ، وهو لم تبلغه دعوة ، ولكن أعذرنا إلى الأمم ، وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } [ الملك : 8 ، 9 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : ويحتمل قوله تعالى : { بِظُلْمٍ } وجهين :
أحدهما : ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه ، وهم غافلون ، يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ{[11233]} ينبههم على حجج الله عليهم ، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا : { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] .
والوجه الثاني : أن { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ } يقول : لم يكن [ ربك ]{[11234]} ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر ، فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام{[11235]} لعبيده .
ثم شرع يرجح الوجه الأول ، ولا شك أنه أقوى ، والله أعلم{[11236]} .
{ ذلك } إشارة إلى إرسال الرسل ، وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك . { أن لم يكن ربكم مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة أي : الأمر لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه ، أو ملتبسين يظلم أو ظالما وهم غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.