{ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ْ } أي : سترا ومانعا ، وهذا التباعد منها ، واتخاذ الحجاب ، لتعتزل ، وتنفرد بعبادة ربها ، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع والذل لله تعالى ، وذلك امتثال منها لقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ* يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ْ } وقوله : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ْ } وهو : جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ْ } أي : كاملا من الرجال ، في صورة جميلة ، وهيئة حسنة ، لا عيب فيه ولا نقص ، لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه ، فلما رأته في هذه الحال ، وهي معتزلة عن أهلها ، منفردة عن الناس ، قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها وهم أهلها ، خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء ، وطمع فيها ، فاعتصمت بربها ، واستعاذت منه فقالت له : { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ْ } .
وقوله : { فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } تأكيد لانتباذها من أهلها ، واعتزالها إياهم .
أى : اذكر وقت أن اعتزلت أهلها . فى مكان يلى شرق بيت المقدس ، فاتخذت بينها وبينهم حجابا وساتراً للتفرغ لعبادة ربها .
ثم بين - سبحانه - ما أكرمها به فى حال خلوتها فقال : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } .
أى : فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل - عليه السلام - فتشبه لها فى صورة بشر سوى معتدل الهيئة ، كامل البنية ، كأحسن ما يكون الإنسان .
يقال : رجل سوى ، إذا كان تام الخلقة عظيم الخلق ، لا يعيبه فى شأن من شئونه إفراد أو تفريط .
والإضافة فى قوله { رُوحَنَا } للتشريف والتكريم ، وسمى جبريل - عليه السلام - روحاً لمشابهة الروح الحقيقية فى أن كلا منهما مادة الحياة للبشر .
فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة ألإلهية تحيا ب القلوب ، والروح تحيا به الأجسام .
وإنما تمثل لها جبريل - عليه السلام - فى صورة بشرى سوى ، لتستأنس بكلامه ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته ، ولو بدا لها فى صورته التى خلقه الله - تعالى - عليها . لنفرت منه ، ولم تستطع مكالمته .
وقوله : { بَشَراً سَوِيّاً } حالان من ضمير الفاعل فى قوله { فَتَمَثَّلَ لَهَا } .
وقوله : { فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا } أي : استترت منهم وتوارت ، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } أي : على صورة إنسان تام كامل .
قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن جُرَيْج{[18731]} ووهب بن مُنَبِّه ، والسُّدِّي ، في قوله : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } يعني : جبريل ، عليه السلام .
وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى : { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] .
وقال أبو جعفر الرازي{[18732]} ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : إن روح عيسى ، عليه السلام ، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم ، وهو الذي تمثل لها بشرا سويًّا ، أي : روح عيسى ، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها .
وقوله : فاتّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابا يقول : فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس . وذُكر عن ابن عباس ، أنها صارت بمكان يلي المشرق ، لأن الله أظلها بالشمس ، وجعل لها منها حجابا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِيّا قال : مكانا أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فاتّخَذَتْ مِنْ دونِهِمْ حِجابا من الجدران .
وقوله : فأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا يقول تعالى ذكره : فأرسلنا إليها حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، واتخذت من دونهم حجابا : جبريل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا قال : أرسل إليها فيما ذُكر لنا جبريل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : وجدت عندها جبريل قد مثله الله بشرا سويا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : فأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا قال : جبريل .
حدثني محمد بن سهل ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب ، قال : سمعت وهب بن منبه ، قال : أرسل الله جبريل إلى مريم ، فَمَثَلَ لها بشرا سويا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فلما طهرت ، يعني مريم من حيضها ، إذا هي برجل معها ، وهي قوله : فأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثّلَ لَها بَشَرا سَوِيّا يقول تعالى ذكره : فتشبه لها في صورة آدميّ سويّ الخلق منهم ، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق .
وقال بعض الناس «الحجاب » هي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادتها . فقال السدي كان من جدرات ، وقيل من ثياب ، وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب ، و «الروح » جبريل ، وقيل عيسى ، حكى الزجاج القولين . فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو لها . ومن قال إنه عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها ، قال النقاش ومن قرأ «روحنّا » مشددة النون جعله اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره . واختلف الناس في نبوة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك ، وقيل لم تكن نبية وإنما كملها مثال بشر ورؤيتها لملك ، كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام والأول أظهر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.