إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا} (17)

{ فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } وكان موضعُها المسجدَ فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهُرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملَكُ عليه الصلاة والسلام في صورة آدميَ شابّ أمردَ وضيءِ الوجه جعْدِ الشعر وذلك قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } أي جبريلَ عليه الصلاة والسلام عبرّ عنه بذلك توفيةً للمقام حقَّه ، وقرئ بفتح الراء لكونه سبباً لما فيه روحُ العباد الذي هو عُدّةُ المقربين في قوله تعالى :

{ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } سويَّ الخلقِ كاملَ البُنية لم يفقِدْ من حِسان نعوتِ الآدمية شيئاً ، وقيل : تمثل في صورة تِرْبٍ لها اسمُه يوسفُ من خدم بيتِ المقدس وذلك لتستأنسَ بكلامه وتتلقّى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى ، إذ لو بدا لها على الصورة الملَكيةِ لنفرَتْ منه ولم تستطع مفاوضتَه . وأما ما قيل من أن ذلك لتهييج شهوتِها فتنحدر نطفتُها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بيانِ آثارِ القدرة الخارقةِ للعادة يكذبه قوله تعالى : { قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إن كنت تقيا } . فإنه شاهد عدْلٌ بأنه لم يخطُر ببالها شائبةُ ميل ما إليه فضلاً عما ذُكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتبِ الميل والشهوة ، نعم كان تمثيلُه على ذلك الحسنِ الفائقِ والجمالِ الرائقِ لابتلائها وسبْر عِفّتها ، ولقد ظهر منها من الورع والعَفافِ ما لا غايةَ وراءه ، وذكرُه تعالى بعنوان الرحمانيةِ للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلابِ آثارِ الرحمةِ الخاصة التي هي العصمةُ مما دهِمَها وقوله تعالى : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي تتقي الله تعالى وتبالي بالاستعاذة به ، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة السياقِ عليه أي فإني عائذةٌ به أو فتعوّذْ بتعوذي أو فلا تتعرّضْ لي .