اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا} (17)

ثم إنَّها مع ذلك اتَّخذت من دُون أهلها حِجاباً .

قال ابنُ عباسٍ : سِتْراً ، وقيل : جلست وراء جدارِ ، وقال نقاتلٌ : وراء جبل .

فصل

اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها ، فقيل " إنها لمَّا رأت الحيضَ ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ ، وتعودَ ، فلما طهرتْ ، جاءها جبريل -عليه السلام- .

وقيل : طلبت الخلوة للعبادة .

وقيل : تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها .

وقيل : كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا ، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها ، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل ؛ لتُفلِّي رأسها ، فانفرج السَّقفُ لها ، فخرجت في المشرقة وراء الجبل ، فأتاها الملكُ .

وقيل : عطِشَتْ ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستسقي ، وكل هذه الوجوه محتملة .

واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس ، أو شرقيَّ دارها .

قال ابنُ عبَّاسٍ –رضي الله عنهما- : إنِّي لأعلمُ خلق الله ، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةٌ ؛ لقوله : { مَكَاناً شَرْقِياً } فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً ، وهو قول الحسنِ -رحمه الله تعالى- .

قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } .

الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من " رُوحِنَا " وهو ما يَحْيون به ، وقرأ{[21481]} أبو حيوة ، وسهلٌ بفتحها ، أي : ما فيه راحةٌ للعبادِ ، كقوله تعالى : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] وحكى النقاس : أنه قُرِئ{[21482]} " رُوحنَّا " بتشديد النُّون ، وقال : هو اسمُ ملكٍ من الملائكة .

قوله : { بَشَراً سويًّا } حالٌ من فاعل " تمَثَّل " وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها ، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً .

فصل في المراد بالروح

اختلفوا في هذا الرُّوح{[21483]} ، فالأكثرون على أنَّه جبريل -صلوات الله عليه- لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] وسُمِّي روحاً ؛ لأنَّ الدِّين يحيى به .

وقيل : سُمِّي رُوحاً على المجازِ ؛ لمحبته ، وتقريبه ، كما تقول لحبيبك : رُوحِي .

وقيل : المرادُ من الرُّوح{[21484]} : عيسى -صلوات الله عليه- جاء في صورة بشرٍ ، فحملت به ، والأول أصحُّ ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد ، حسن الوجه ، جعد الشَّعْر ، سويِّ الخلق وقيل : في صُورة تربٍ لها ، اسمه يوسفُ ، من خدم بيت المقدس .

قيل : إنما تمثَّل لها في صورة بشر ؛ لكي لا تنفر منه ، ولو ظهر في صورةِ الملائكة ، لنفرت عنه ، ولم تقدر على استماع كلامه ، وهاهنا إشكالات :

الأول : أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن ، فحينئذ ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس ؛ لاحتمالِ أن الملك ، أو الجنِّي تمثَّل بصورته ، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ ، ولا يقال : هذا إنَّما يجوز في زمانِ [ جواز ]{[21485]} البعثة ، فأما في زماننا فلا يجوز .

لنا أن نقول : هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل ، فالجاهلُ{[21486]} بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ .

الثاني : أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل -صلوات الله عليه- شخصٌُ عظيمٌ جدًّا ، فذلك الشخصُ -كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان ، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء ، وهو محالٌ .

الثالث : أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل -صلوات الله عليه- في صورة الآدمي ، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ ؛ كالذُّباب ، والبقِّ ، والبعُوضِ ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا ، وهو باطلٌ .

الرابع : أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر ، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ ، لم يكُن محمَّداً -صلوات الله عليه وسلامه- بل كان شخصاً يشبهه ، وكذا القولُ في الكُلِّ .

والجوابُ عن{[21487]} الأوَّل : أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار ، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر ؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه ، وإذا جوَّزنا ذلك ، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمْسِ ، أم لا ، ومن أنكر الصَّانع المختار ، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب ، وتشكُّلات الفلك ، لزمه [ تجويزُ ]{[21488]} أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور ، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور .

وعن الثاني : أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ -عليه السلام- له أجزاءٌ أصليَّةٌ ، وأجزاءٌ فاضلةٌ ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا ؛ فحينئذ : يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان ، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا ، فإذا جعلناهُ روحانيًّا ، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم ، وأخرى بالهيكل الصَّغير .

وعن الثالث : أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل ، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع ، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع .


[21481]:ينظر: الكشاف 2/9، والبحر 6/170، والدر المصون 4/496.
[21482]:ينظر: البحر 6/170، والدر المصون 4/496.
[21483]:ينظر: الفخر الرازي 21/167.
[21484]:ينظر: معالم التنزيل 3/191.
[21485]:سقط من ب.
[21486]:في أ: فالحاصل.
[21487]:ينظر: الفخر الرازي 21/168.
[21488]:سقط من ب.