ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن ، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن ، ودعا إليه الناس فقال : { وَمَا صَاحِبُكُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته ، المتقولون عليه من الأقوال ، التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به ما شاءوا وقدروا عليه ، بل هو أكمل الناس عقلا ، وأجزلهم رأيا ، وأصدقهم لهجة .
وقوله : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } : الخطاب لأهل مكة ، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : وما محمد يا أهل مكة بمجنون ، وذكره بوصف الصحبة للإِشعار بأنهم عالمون بأمره ، وأنه ليس مما يرمونه من الجنون وغيره فى شئ ، وأنهم افتروا عليه ذلك ، عن علم منهم ، بأنه عقل الناس وأكملهم ، وهذه الجملة داخلة فى جواب القسم .
فأقسم - سبحانه - بأن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون ، وأنه يأتى القرآن من جهة نفسه .
فالمقصود بالآية نفى الجنون عن النبى صلى الله عليه وسلم بأكمل وجه ، وتوبيخ أعدائه الذين اتهموه بتهمة هم أول من يعلم - عن طريق مشاهدتهم لاستقامة تفكيره ، وسمو أخلاقه - أنه أكمل الناس عقلا وأقومهم سلوكا .
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه ، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو( صاحبكم ) . . عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب ، وهو( صاحبكم )الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين :
( وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين ) . .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة ، ويعرفون رجاحة عقله ، وصدقه وأمانته وتثبته ، قالوا عنه : إنه مجنون .
وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب ! وتركوا التعليل الوحيد الصادق ، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع ، وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة ، التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله ، والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون . والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية ، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] لمؤتمن على الغيب ، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه ، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين . ( وما هو بقول شيطان رجيم )فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم .
وقوله : وَما صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ يقول تعالى ذكره : وما صاحبكم أيها الناس محمد بمجنون ، فيتكلم عن جِنّة ، ويهذي هذيان المجانين ، بل جاء بالحقّ ، وصدّق المرسلين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي ، قال : حدثنا أبي عمرو بن خالد ، عن مَعْقل بن عبد الله الجَزَريّ ، قال : قال ميمون بن مهران : وَما صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ قال : ذاكم محمد صلى الله عليه وسلم .
عطف على جملة : { إنه لقول رسول كريم } [ التكوير : 19 ] فهو داخل في خبر القَسَم جواباً ثانياً عن القَسَم ، والمعنى : وما هو ( أي القرآن ) بقول مجنون كما تزعمون ، فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مُرسَلٍ من الله وكان قد تضمن ذلك ثناءً على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما بلغه عَن الله تعالى ، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم : { معلّم مجنون } [ الدخان : 14 ] وقولهم : { افترى على اللَّه كذباً أم به جنة } [ سبأ : 8 ] ، فأبطل قولهم إبطالاً مؤكداً ومؤيداً ، فتأكيده بالقَسم وبزيادة الباء بعد النفي ، وتأييده بما أومأ إليه وصفه بأن الذي بلّغه صاحِبُهم ، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خُلقه وعقلَه ويعلمون أنه ليس بمجنون ، إذ شأن الصاحب أن لا تَخفى دقائقُ أحواله على أصحابه .
والمعنى : نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين ، فسلامة مُبَلِّغِه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وَسْوَسَة .
ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب { رسول كريم } [ التكوير : 19 ] النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قوله : { صاحبكم } هنا إظهاراً في مقام الإِضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي .
والصاحب حقيقته : ذو الصحبة ، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة والموافقة ، ومنه قيل للزوج : صاحبةٌ وللمسافر مع غيره صاحبٌ ، قال امرؤ القيس :
بَكَى صاحبي لَمَّا رأي الدَّرْبَ دونَه
وقال تعالى حكاية عن يوسف : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 39 ] ، وقال الحريري في « المقامة الحادية والعشرين » : « ولا لَكم مني إلا صُحْبَة السفينة » .
وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالِط في أحوال كثيرة ولو في الشر ، كقول الحجاج يخاطب الخوارج : « ألسْتُم أصحابي بالأهواز حينَ رمتم الغدر ، واستبطنتم الكفر » . وقول الفضل اللّهبِي :
كلّ له نيَّة في بُغْضضِ صاحبه *** بنعمةِ اللَّه نَقْلِيكم وتَقْلُونا
والمعنى : أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه : « إنه مجنون » إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة .
فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها ، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم .
ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني .
ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب « الكشاف » : « وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكانة جبريل عليه السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذِّكْرين وقايست بين قوله : { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين } [ التكوير : 19 ، 20 ] ، وبين قوله : { وما صاحبكم بمجنون } اه .
وكيف انصرف نظرُه عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقولوا في جبريل شيئاً لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلاً لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء ، وهي مسألة لها مجال آخر ، على أنك قد علمتَ أن الصفات التي أجريت على { رسول في قوله تعالى : { إنه لقول رسول كريم } إلى قوله : { أمين } [ التكوير : 19 21 ] ، غيرُ متعين انصرافُها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغياناً يرمي بفهمه في مهاوي الضَّآلة ، وهل يسمح بال ذي مسكة من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه أنه مجنون ، وهذا كله مبني على تفسير : { رسول كريم } بجبريل فأما إن أريد به محمد صلى الله عليه وسلم أوْ هو وجبريل عليهما السلام فهذا مقتلَع من جذره .
ولا يخفى أن العدول عن اسم النبي العَلَم إلى { صاحبكم } لما يؤذن به { صاحبكم } من كونهم على علم بأحواله ، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد ب { رسول } خصوص النبي صلى الله عليه وسلم فمن الإظهار في مقام الإِضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب { رسول } كلاهما فذكر { صاحبكم } لتخصيص الكلام به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كفار مكة قالوا: إن محمدا مجنون، وإنما تقَوّله من تلقاء نفسه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما صاحبكم أيها الناس –محمد- بمجنون، فيتكلم عن جِنّة، ويهذي هذيان المجانين، بل جاء بالحقّ، وصدّق المرسلين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فمنهم من يقول: إن الكفرة نسبوه إلى الجنون حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل على صورته، فغشي عليه، وكان يتغير في كل مرة يأتي بها جبرائيل عليه الصلاة والسلام، بالوحي لون وجهه، فينسبونه إلى الجنون لهذا. ومنهم من يقول: إنما نسبوه إلى الجنون لأنه أظهر المخالفة لأهل الأرض، وكان في الأرض الجبابرة والفراعنة الذين من عادتهم القتل والتعذيب لمن أظهر الخلاف لهم، فكان ذلك منه مخاطرة بنفسه وروحه حين انتصب لمعاداة من لا طاقة له بهم، ومن قام بخلاف من لا طاقة به] وانتصب لمعاداته، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد، نسبوه إلى الجنون لهذا. ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا، ولكن شدة سفههم هي التي حملتهم على هذا، فنسبوه إلى الجنون مرة وإلى أنه ساحر أخرى، ومرة قالوا: {إنما يعلمه بشر} [النحل: 103] ومرة قالوا: {إن هذا إلا اختلاق} [ص: 7] فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا لا عن بحث منهم في حاله ولكن على السفه والعناد. ألا ترى أنهم ينسبونه إلى الجنون مرة وإلى السحر ثانيا، وهما أمران متناقضان، لأن الساحر، هو الذي بلغ في العلم غايته، والجنون، هو النهاية في الجهل؟ ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول، فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن إتباع النبي صلى الله عليه وسلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم خاطب تعالى جماعة الكفار فقال (وما صاحبكم بمجنون) أي ليس صاحبكم الذي يدعوكم إلى الله وإخلاص عبادته بمؤف العقل على ما ترمونه به من الجنون. والمجنون المغطى على عقله حتى لا يدرك الأمور على ما هي به...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأجمع المفسرون على أن قوله: {وما صاحبكم} يراد به محمد صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما صاحبكم} أي الذي طالت صحبته لكم وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى أنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وأعرق في النفي فقال: {بمجنون} أي كما تبهتونه به من غير استحياء من الكذب الظاهر مع ظهور التناقض فعل ألأم اللئام، بل جاء بالحق وصدق المرسلين، فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون ولا قول- متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكملاء، وهذا النفي المؤكد ثابت له دائماً على سبيل الاستغراق لكل زمان -هذا ما دل عليه الكلام...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي التعبير ب {صاحبكم} استدلال عليهم، وإقامة للحجة على كذبهم في دعواهم، فإنه إذا كان صاحبهم، وكانوا قد خالطوه وعاشروه، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة، وصدق لهجة، وكمال عقل، ووفور حلم، وتفوق على جميع الأنداد والأتراب في صفات الخير- لم يكن ادعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلا من القول وزورا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو (صاحبكم) ....
... الذي لا تجهلون. وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين... ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة، ويعرفون رجاحة عقله، وصدقه وأمانته وتثبته، قالوا عنه: إنه مجنون...
قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار. وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون. وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد. وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد. وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب! وتركوا التعليل الوحيد الصادق، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {إنه لقول رسول كريم} فهو داخل في خبر القَسَم جواباً ثانياً عن القَسَم، والمعنى: وما هو (أي القرآن) بقول مجنون كما تزعمون...
والمعنى: نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين، فسلامة مُبَلِّغِه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وَسْوَسَة. ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب {رسول كريم} النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قوله: {صاحبكم} هنا إظهاراً في مقام الإِضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي. والصاحب حقيقته: ذو الصحبة، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة والموافقة...
والمعنى: أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه: « إنه مجنون» إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة. فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم...