ثم بين - سبحانه - ما كان من زكريا بعد ذلك فقال : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } .
والمحراب : المصلى ، أو الغرفة التى كان يجلس فيها فى بيت المقدس ، أو هو المسجد ، فقد كانت مساجدهم تسمى المحاريب . لأنها الأماكن التى تحارب فيها الشياطين .
أى : فخرج زكريا - عليه السلام - على قومه من المكان الذى كان يصلى فيه ، { فأوحى إِلَيْهِمْ } أى : فأشار إليهم أو كتب لهم دون أن ينطق بلسانه { أن سبحُواْ } الله - تعالى - وقدسوه { بُكْرَةً } أى : فى أوائل النهار { وَعَشِيّاً } أى : فى أواخره .
وقد ذكر - سبحانه - فى آية أخرى ، ما يشير إلى أن هذا المحراب الذى خرج منه زكريا - عليه السلام - على قومه . هو ذلك المكان الذى بشره الله - تعالى - فيه بيحيى .
قال - تعالى - : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ جانباً من رحمة الله - تعالى - بعبده زكريا ، ومن الدعوات التى تضرع بها إلى خالقه - عز وجل - ، وأن الله - تعالى - قد أجاب له دعاءه ، وبشره بيحيى ، وعرفه بالعلامة التى بها يعرف وقوع ما بشره به ، زيادة فى اطمئنانه وسروره .
وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها { إِلا رَمْزًا } أي : إشارة ؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } أي : الذي بشر فيه بالولد ، { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي : أشار إشارة خفية سريعة : { أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي : موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله ، وشكرًا لله على ما أولاه .
قال مجاهد : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي : أشار . وبه قال وهب ، وقتادة .
وقال مجاهد في رواية عنه : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي : كتب لهم في الأرض ، كذا قال السدي .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : فخرج زكريا على قومه من مُصَلاه حين حُبس لسانه عن كلام الناس ، آية من الله له على حقيقة وعده إياه ما وعد . فكان ابن جريج يقول في معنى خروجه من محرابه ، ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ قال : أشرف على قومه من المحراب .
قال أبو جعفر : وقد بيّنا معنى المحراب فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَخَرَجَ عَلى قومِهِ مِنَ المِحْرابِ قال : المحراب : مُصَلاه ، وقرأ : فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ .
وقوله : فَأوْحَى إلَيْهِمْ يقول : أشار إليهم ، وقد تكون تلك الإشارة باليد وبالكتاب وبغير ذلك ، مما يفهم به عنه ما يريد . وللعرب في ذلك لغتان : وَحَى ، وأوحى فمن قال : وَحَى ، قال في يفعل : يَحِي ومن قال : أوحى ، قال : يُوحِي ، وكذلك أَومَى ووَمَى ، فمن قال : وَمَى ، قال في يفعل يَمِي ومن قال أَومَى ، قال يُومِي .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي به أوحى إلى قومه ، فقال بعضهم : أوحى إليهم إشارة باليد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَأَوْحَى : فأشار زكريا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه فَأَوْحَى إلَيْهِمْ قال : الوحي : الإشارة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة فأَوْحَى إلَيْهِمْ قال : أومى إليهم .
وقال آخرون : معنى أوحى : كتب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمود بن خداش ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : فأَوْحَى إلَيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قال : كتب لهم في الأرض .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوريّ ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم فأَوْحَى إلَيْهِمْ قال : كتب لهم .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ فكتب لهم في كتاب أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا ، وذلك قوله : فأَوْحَى إلَيْهِمْ .
وقال آخرون : معنى ذلك : أمرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأَوْحَى إلَيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قال : ما أدري كتابا كتبه لهم ، أو إشارة أشارها ، والله أعلم ، قال : أمرهم أن سَبّحوا بكرة وعشيا ، وهو لا يكلمهم .
وقوله : أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قد بيّنت فيما مضى الوجوه التي ينصرف فيها التسبيح ، وقد يجوز في هذا الموضع أن يكون عَنَى به التسبيح الذي هو ذكر الله ، فيكون أمرهم بالفراغ لذكر الله في طرفي النهار بالتسبيح ، ويجوز أن يكون عنى به الصلاة ، فيكون أمرهم بالصلاة في هذين الوقتين . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فأَوْحَي إلَيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قال : أَوْمَى إليهم أن صلوا بكرة وعشيا .
وقوله { فخرج على قومه } المعنى أن الله تعالى أظهر الآية بأن خرج زكرياء من محرابه وهو موضع مصلاه ، و { المحراب } أرفع المواضع والمباني اذ هي تحارب من ناوأها ثم خص بهذا الاسم مبنى الصلاة ، وكانوا يتخذونها فيما ارتفع من الأرض ، واختلف الناس في اشتقاقه ، فقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات ، وقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرَب بفتح الراء كأن ملازمه يلقى منه حرباً وتعباً ونصباً ، وفي اللفظ بعد هذا نظر ، وقوله { فأوحى } قال قتادة وابن منبه : كان ذلك بإشارة ، وقال مجاهد : بل بأن كتبه في التراب .
قال القاضي أبو محمد : وكلا الوجهين وحي . وقوله { أن سبحوا } ، { أن } مفسرة بمعنى «أي »{[7922]} ، و { سبحوا } قال قتادة : معناه صلوا ، والسبحة الصلاة ، وقالت فرقة : بل أمرهم بذكر الله وقول سبحان الله . وقرأ طلحة «أن سبحوه » بضمير ، وباقي الآية ويقال «وحى وأوحى » بمعنى واحد .
الظاهر أن المعنى أنه خرج على قومه ليصلي على عادته ، فكان في محرابه في صلاة خاصة ودعاء خفي ، ثم خرج لصلاة الجماعة إذ هو الحبر الأعظم لهم .
وضمن { خرج } معنى طلع فعدي بعلى كقوله تعالى : { فخرج على قومه في زينته } [ القصص : 79 ] .
والمحراب : بيت أو محتجر يُخصص للعبادة الخاصة . قال الحريري : فمحرَابيَ أحْرَى بي .
والوحي : الإشارة بالعين أو بغيرها ، والإيماء لإفادة معنى شأنُه أن يفاد بالكلام .
و ( أن ) تفسيرية . وجملة { سبّحوا بكرة وعشِيّاً } تفسير ( لأَوْحى ) ، لأن ( أوحى ) فيه معنى القول دون حروفه .
وإنما أمرهم بالتسبيح لئلا يحسبوا أن زكرياء لما لم يكلمهم قد نذر صمتاً فيقتدوا به فيصمتوا ، وكان الصمت من صنوف العبادة في الأمم السالفة ، كما سيأتي في قوله تعالى : { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً } [ مريم : 26 ] . فأومأ إليهم أن يشرعوا فيما اعتادوه من التسبيح ؛ أو أراد أن يسبحوا الله تسبيح شكر على أن وهب نبيئهم ابناً يرث علمه ، ولعلهم كانوا علموا ترقبه استجابه دعوته ، أو أنه أمرهم بذلك أمراً مبهماً يفسره عندما تزول حبْسة لسانه .