الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا} (11)

قوله تعالى : { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } فيه خمس مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " فخرج على قومه من المحراب " أي أشرف عليهم من المصلى . والمحراب أرفع المواضع ، وأشرف المجالس ، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ، دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي . واختلف الناس في اشتقاقه ، فقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات . وقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب ( بفتح الراء ) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا .

الثانية-هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم . وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر . ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام .

قلت : وهذا فيه نظر ، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه{[10796]} ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو ينهى عن ذلك ! قال : بلى قد ذكرت حين مددتني ، وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه ، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزل حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته ، قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم ) أو نحو ذلك ، فقال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .

قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة ، وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام . وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر ؛ لأن كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا ، والله أعلم .

الثالثة-قوله تعالى : " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " قال الكلبي وقتادة وابن منبه : أوحى إليهم أشار . القتبي : أومأ{[10797]} . مجاهد : كتب على الأرض . عكرمة : كتب في كتاب . والوحي في كلام العرب الكتابة ، ومنه قول ذي الرمة :

سوى الأربع الدُّهم اللواتي كأنها *** بقِيَّةُ وحْيٍ في بطون الصحائف

وقال عنترة :

كوحيِ صحائفٍ من عهد كسرى *** فأهداها لأعجم طِمْطِمِيِّ{[10798]}

و " بكرة وعشيا " ظرفان . وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت ، قال : وقد يكون العشي جمع عشية .

الرابعة-قد تقدم الحكم في الإشارة في " آل عمران " {[10799]} واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا ، أو أرسل إليه رسولا ، فقال مالك : إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته ، ثم رجع فقال : لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله . قال ابن القاسم : إذا قرأ كتابه حنث ، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه . وقال أشهب : لا يحنث إذا قرأه الحالف ، وهذا بين ؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم . فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته ، وقال ابن الماجشون : وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه إليه أو أرسل إليه رسولا بر ، ولو علماه جميعا لم يبر ، حتى يعلمه لأن علمهما مختلف .

الخامسة-واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه ، قال الكوفيون : إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء . قال الطحاوي : الخرس مخالف للصمت العارض ، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز الميؤوس منه الجماع ، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة .


[10796]:في جـ: جذبه.
[10797]:في جـ و ك: أوصى.
[10798]:الطمطمي: الأعجم الذي لا يفصح.
[10799]:راجع جـ 4 ص 81.