ثم قال : { وَلَا تَلْبِسُوا } أي : تخلطوا { الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } فنهاهم عن شيئين ، عن خلط الحق بالباطل ، وكتمان الحق ، لأن المقصود من أهل الكتب والعلم ، تمييز الحق ، وإظهار الحق ، ليهتدي بذلك المهتدون ، ويرجع الضالون ، وتقوم الحجة على المعاندين ، لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته ، ليميز الحق من الباطل ، ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين ، فمن عمل بهذا من أهل العلم ، فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم .
ومن لبس الحق بالباطل ، فلم يميز هذا من هذا ، مع علمه بذلك ، وكتم الحق الذي يعلمه ، وأمر بإظهاره ، فهو من دعاة جهنم ، لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم ، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين .
وبعد أن نهى القرآن الكريم بني إسرائيل عن الكفر والضلال ، عقب ذلك بنهيهم عن أن يعملوا لإِضلال غيرهم ، فقال - { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
اللبس - بفتح اللام - الخلط ، وفعله : ليس ، من باب : ضرب تقول : لبَست عليه الأمر ، ألبِسه إذا مزجت بينه بمشكله ، وحقه بباطله .
ولدعاة الضلالة طريقتان في إغواء الناس :
إحداهما : طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهي المشار إليها بقوله تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } .
والثانية : طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : { وَتَكْتُمُواْ الحق } .
وقد استعمل بنو إسرائيل الطريقتين لصرف الناس عن الإِسلام ، قد كان بعضهم يؤول نصوص كتيهم الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - تأويلا فاسداً ، يخلصون فيه الحق بالباطل ، ليوهموا العامة أنه ليس هو النبي المنتظر ، وكان بعضهم يلقى حول الحق الظاهر شبهاً ، لوقع ضعفاء الإِيمان في حيرة وتردد ، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي لا توافق أهواءهم وشهواتهم ، فنهاهم الله - تعالى - عن هذه التصرفات الخبيثة .
والمعنى : ولا تخلطوا الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية ، وأيدته العقول السليمة ، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم ، إرضاء لأهوائكم ، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه ، كما تعرفون أبناءكم ، بغية انصراف الناس عنه " لأن من جهل شيئا عاداه ، فالنهي الأول عن التغيير والخلط ، والنهي الثاني عن الكتمان والإِخفاء .
وقوله تعالى { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي وأنتم من ذوي العلم ، ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق ، أو يلبسه بالباطل ، وإذا كان هذا الفعل - وهو لبس الحق بالباطل ، أو كتمانه وإظهار الباطل وحده - يعد من كبائر الذنوب ، فإن وقعه يكون أقبح ، وفساده أكبر ، وعاقبته أشأم متى صدر من عالم فاهم ، يميز بين الحق والباطل .
ففي هذه الجملة الكريمة بيان لحال بني إسرائيل ، المخاطبين بهذا النهي ، وتبكيت لهم ، لأنهم لم يفعلوا ما فعله عن جهالة ، وإنما عن علم وإصرار على سلوك هذا الطريق المعوج .
قال أبو حيان في البحر : " وهذه الحال ، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم ، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل ، إذ الجاهل بحال الشيء لا يردي كونه حقاً أو باطلا ، وإنما فادئتها بيان أن الإِقدام على الأشياء القبيحة ، مع العلم بها ، أفحش من الإِقدام عليها مع الجهل .
ويمضي السياق يحذرهم ما كانوا يزاولونه من تلبيس الحق بالباطل ، وكتمان الحق وهم يعلمونه ، بقصد بلبلة الأفكار في المجتمع المسلم ، وإشاعة الشك والاضطراب :
( ولا تلبسوا الحق بالباطل . وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) . .
ولقد زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحق في كل مناسبة عرضت لهم ، كما فصل القرآن في مواضع منه كثيرة ؛ وكانوا دائما عامل فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي ، وعامل اضطراب وخلخلة في الصف المسلم . وسيأتي من أمثلة هذا التلبيس الشيء الكثير !
يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه ، من تلبيس{[1644]} الحق بالباطل ، وتمويهه به{[1645]} وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{[1646]} فنهاهم عن الشيئين معًا ، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ؛ ولهذا قال الضحاك ، عن ابن عباس { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب .
وقال أبو العالية : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } يقول : ولا تخلطوا الحق بالباطل ، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويروى{[1647]} عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس ، نحوه .
وقال قتادة : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } [ قال ]{[1648]} ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ؛ إن دين الله الإسلام ، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله .
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم . وروي عن أبي العالية نحو ذلك .
وقال مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم .
[ قلت : { وَتَكْتُمُوا } يحتمل أن يكون مجزومًا ، ويجوز أن يكون منصوبًا ، أي : لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . قال الزمخشري : وفي مصحف ابن مسعود : " وتكتمون الحق " أي : في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضًا ، ومعناه : وأنتم تعلمون الحق ، ويجوز أن يكون المعنى : وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم ، والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل ]{[1649]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.