ومع هذا فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال ، فنبئهم { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } أي : لا عذاب في الحقيقة إلا عذاب الله الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه نعوذ به من عذابه ، فإنهم إذا عرفوا أنه { لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } حذروا وأبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب ، فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما بين الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة ، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه ، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة ، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه ، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها .
والخطاب في قوله - تعالى - : { نبئ عبادى . . } للرسول صلى الله عليه وسلم والنبأ : الخبر العظيم . والمراد { بعبادى } : المؤمنون منهم ، والإِضافة للتشريف .
أى : أخبر - أيها الرسول الكريم - عبادى المؤمنين أنى أنا الله - تعالى - الكثير المغفرة لذنوبهم ، الواسع الرحمة لمسيئهم ، وأخبرهم - أيضًا - أن عذابى هو العذاب الشديد الإِيلام ، فعليهم أن يقدموا القول الطيب ، والعمل الصالح ، لكى يظفروا بمغفرتى ورحمتى ، وينجو من عذابى ونقمتى .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد جمع في هاتين الآيتين بين المغفرة والعذاب ، وبين الرحمة والانتقام ، وبين الوعد والوعيد ، لبيان سنته - سبحانه - في خلقه ، ولكى يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء ، فلا يقنط من رحمة الله ، ولا يقصر في أداء ما كلفه - سبحانه - به .
وقدم - سبحانه - نبأ الغفران والرحمة ، على نبأ العذاب والانتقام ، جريا على الأصل الذي ارتضته مشيئته ، وهو أن رحمته سبقت غضبه ، ومغفرته سبقت انتقامه .
والضمير " أنا " و " هو " في الآيتين الكريمتين ، للفصل ؛ لإِفادة تأكيد الخبر .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وفى الآيتين لطائف :
إحداها : أنه أضاف - سبحانه - العباد إلى نفسه بقوله { عبادى } وهذا تشريف عظيم لهم . . .
وثانيها . أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة : أولها : قوله { أنى } وثانيها قوله { أنا } ، وثالثها . إدخال حرف الألف واللام على قوله { الغفور الرحيم } ، ولما ذكر العذاب لم يقل : إنى أنا المعذب ، بل قال { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } .
وثالثها : أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى ، فكأنه أشهده على نفسه في التزام المغفرة والرحمة .
ورابعها : أنه لما قال { نبئ عبادى } كان معناه نبئ كل من كان معترفًا بعبوديتى ، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع . فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصى ، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله - تعالى - .
وقال الآلوسى : وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - تعالى - خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله - تعالى - من العذاب ، لم يأمن من النار " .
وأخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم قدر عفو الله - تعالى - لما تورع من حرام ، ولو يعلم العبد قدر عذابه لبخع نفسه " .
وقوله : نَبّىءْ عِبادِي أنّي أنا الغَفُورُ الرّحِيمُ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أخبر عبادي يا محمد ، أني أنا الذي أستر على ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا ، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها ، الرحيم بهم أن أعذّبهم بعد توبتهم منها عليها . وأنّ عَذابِي هُو العَذَابُ الأليمُ يقول : وأخبرهم أيضا أن عذابي لمن أصرّ على معاصيّ وأقام عليها ولم يتب منها ، هو العذاب الموجع الذي لا يشبهه عذاب . وهذا من الله تحذير لخلقه التقدم على معاصيه ، وأمر منه لهم بالإنابة والتوبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : نَبّىءْ عِبادِي أنّي أنا الغَفُورُ الرّحِيمُ وأنّ عَذَابِي هُو العَذَابُ الألِيمُ قال : بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لوْ يَعلمُ العبدُ قَدْر عَفْوِ اللّهِ ما تورّعَ من حرام ، وَلَو يَعلم قَدْر عَذابِهِ لَبخَع نفسَه » .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا ابن المكيّ ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا مصعب بن ثابت ، قال : حدثنا عاصم بن عبد الله ، عن ابن أبي رباح ، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : طَلَع عَلْيَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، فقال : «ألا أرَاكُمْ تَضْحَكُونَ ؟ » ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع رجع إلينا القهقري ، فقال : «إنّي لمّا خَرَجْتُ جاءَ جَبْرَئِيلُ صلى الله عليه وسلم فَقالَ : يا مُحَمّد إنّ اللّهَ يَقُولُ : لِمَ تُقَنّطُ عِبادِي ؟ نَبّىءْ عِبادِي أنّي أنا الغَفُورُ الرّحِيمُ وأنّ عَذَابِي هُو العَذَابُ الألِيمُ » .
و { نبىء } معناه أعلم ، و { عبادي } مفعول ب { نبىء } ، وهي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، ف { عبادي } مفعول و «أن » تسد مسد المفعولين الباقيين واتصف ذلك وهي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد ، ألا ترى أنك إذا قلت أعجبني أن زيداً منطلق إنما المعنى أعجبني انطلاق زيد لأن دخولها إنما هو على جملة ابتداء وخبر فسدت لذلك مسد المفعولين .
قال القاضي أبو محمد : وقد تتعدى { نبىء } إلى مفعولين فقط ومنه قوله تعالى { من أنبأك هذا }{[7183]} [ التحريم : 3 ] ، وتكون في هذا الموضع بمعنى أخبر وعرف ، وفي هذا كله نظر ، وهذه آية ترجية وتخويف ، وروي في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لنا تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه »{[7184]} وروي في هذه الآية أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه عند باب بني شيبة في الحرم ، فوجدهم يضحكون ، فزجرهم ووعظهم ثم ولى فجاءه جبريل عن الله ، فقال : يا محمد أتقنط عبادي ؟ وتلا عليه الآية ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم{[7185]} .
قال القاضي أبو محمد : ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها ، إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة فأكد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية .
ضمير { أنا } وضمير { هو } ضميرا فصل يفيدان تأكيد الخبر .
واعلم أن في قوله تعالى : { نبىء عبادي } إلى { الرحيم } من المحسّنات البديعية محسّن الاتّزان إذا سكنت ياء { أني } على قراءة الجمهور بتسكينها ، فإن الآية تأتي متزنة على ميزان بحر المجتث الذي لحقه الخبن في عروضه وضربه فهو متَفْعلن فَعِلاتن مرتين .