تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

لِيُحِقَّ الْحَقَّ بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه ، . وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فلا يبالي اللّه بهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

ثم بين - سبحانه - الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ، ونصرتهم عليهم فقال : { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } .

أى : فعل ما فعل من النصرة والظفر بالأعداد { لِيُحِقَّ الحق } أى : ليثبت الدين الحق دين الإِسلام { وَيُبْطِلَ الباطل } أى : ويمحق الدين الباطل وهو ما عليه المشركون من كفر وطغيان .

وقوله : { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } بيان لنفاذ إرادته - سبحانه - أى : اقتضت إرادته أن يعز الدين الحق وهو دين الإِسلام ، وأن يمحق ما سواه ، ولو كره المشركون ذلك ، لأن كراهيتهم لا وزن لها ، ولا تعويل عليها . .

وبهذا يتبين أنه لا تكرار بين الآيتيتن السابقتين ، لأن المراد بإحقاق الحق في قوله - تعالى - { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } : إعلاؤه وإظهاره ونصرته عن طريق قتال المؤمنين للمشركين .

والمراد بإحقاق الحق في قوله بعد ذلك في الآية الثانية { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } : تثبيت دين الإِسلام وتقويته وإظهار شريعته ، ويمحق دين الكفر .

فكان ما اشتملت عليه الآية الأولى هو الوسيلة والسبب وما اشتملت عليه الآية الثانية هو المقصد والغاية .

وقد بسط هذا المعنى الإِمام الرازى فقال ما ملخصه : فإن قيل : أليس قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ثم قوله بعد ذلك : { لِيُحِقَّ الحق } تكرارا محضا ، فالجواب : ليس ههنا تكرير ؛ لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء ، والمراد بالثانى ؛ تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة ، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين ، كان سببا لعزة الدين وقوته ، ولهذا السبب قرنه بقوله { وَيُبْطِلَ الباطل } الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة { الحق } الذي هو الدين والإِيمان .

وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حدثتنا في الأربع الآيات الأولى منها عن حكم الله - تعالى - في غنائم بدر بعد أن اختلف بعض المؤمنين في شأنها ، وعن صفات المؤمنين الصادقين الذين يستحقون من الله - تعالى - أرفع الدرجات .

ثم حدثتنا في الأربع الثانية منها عن حال بعض المؤمنين عندما دعاهم النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال أعدائهم ، وعن مجادلتهم له في ذلك ، وعن إيثارهم المال على القتال ، وعن إرادة ما هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم ، وفى ذلك ما فيه من العبر والعظات لقوم يعقلون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

5

( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ، ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون ) . .

لقد أراد الله - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة ؛ وأن تكون موقعة بين الحق والباطل ، ليحق الحق ويثبته ، ويبطل الباطل ويزهقه . وأراد أن يقطع دابر الكافرين ، فيقتل منهم من يقتل ، ويؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم ، وتخضد شوكتهم ، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله ، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله ، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحطيم طاغوت الطواغيت . وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف - تعالى الله عن الجزاف - وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال .

نعم . أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ؛ وأن تصبح دولة ؛ وأن يصبح لها قوة وسلطان . وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها . فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها ! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة ، وليس بالمال والخيل والزاد . . . إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد . وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية ، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي . ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ؛ ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ؛ ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد . . وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان .

وينظر الناظر اليوم ، وبعد اليوم ، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها . بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير . . ينظر فيرى الآماد المتطاولة ؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم ؛ وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى . بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال ، ولا بخيال !

فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ? لقد كانت تمضي - لو كانت لهم غير ذات الشوكة -قصة غنيمة . قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة . قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل . قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد ؛ والحق في قلة من العدد ، وضعف في الزاد والراحلة . قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله ، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي . بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال ! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي ، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها ، قد انتصرت على نفسها ، وانتصرت على من فيها ، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل ؛ فقلبت بيقينها ميزان الظاهر ؛ فإذا الحق راجح غالب .

ألا إن غزوة بدر - بملابساتها هذه - لتمضي مثلاً في التاريخ البشري . ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة ؛ وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة . . الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية . . ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان ، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها . فهي آية من آيات الله ، وسنة من سننه الجارية في خلقه ، ما دامت السماوات والأرض . . ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض - بعد ما غلبت عليها الجاهلية - لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [ بدر ] وقيمها الحاسمة التي تقررها ؛ والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم :

( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم . ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون ) . . .

إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع ، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر . ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة ، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض ، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض ، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية . . .