تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة عبس

أهداف سورة عبس

( سورة مكية ، وآياتها 42 آية ، نزلت بعد سورة النجم )

وهي سورة تصحح القيم الإنسانية ، وتضع الأسس الإسلامية لأقدار الناس وأوزانهم ، وتؤكد أن قيمة الإنسان بعمله وسلوكه ، ومقدار اتباعه لهدى السماء ، قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . ( الحجرات : 13 ) .

وقد نزلت سورة عبس في عبد الله بن أم مكتوم ، وأم مكتوم أم أبيه ، وأبوه شريح بن مالك بن ربيعة الزهري .

( وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ، ويقول إذا رآه : ( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ) ، ويقول له : ( هل لك من حاجة ) ؟ واستخلفه على المدينة مرتين . i .

فقرات السورة

تعاتب الآيات الأولى النبي صلى الله عليه وسلم على إعراضه عن عبد الله بن أم مكتوم ، وقد جاء يطلب الهدى ، ويلحف في طلب العلم . ( الآيات 1-16 ) .

ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان ، وكفره الفاحش بربه ، وهو يذكره بمصدر وجوده وأصل نشأته ، وتيسير حياته وتولي ربه له في موته ونشره ، ثم تقصير الإنسان بعد ذلك في أمر ربه . ( الآيات -17-23 ) .

والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمسّ الأشياء به ، وهو طعامه وطعام حيوانه ، وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له . ( الآيات 24- 32 ) .

والمقطع الأخير يعرض الصاخّة التي يشتد هولها ، ويذهل الإنسان بها عما عداها ، وتنقسم الوجوه إلى ضاحكة مستبشرة ، وعابسة مغبرة . ( الآيات : 33- 32 ) .

وتكسب السورة الإحساس بقدرة هذا الكتاب الخارقة على تغيير موازين الجاهلية ، وتصحيح القيم ، وتغيير المثل الأعلى ، فبعد أن كان احترام الإنسان لجاهه وماله ، أو منصبه ومركزه ، أو مظاهر سطوته وجبروته وقوته ، أصبح المثل الأعلى في الإسلام هو طلب الحق والهدى ، والتزام هدى السماء ، ومراقبة الله والتزام أوامره ، والعمل بأحكامه ، وصدق اللع العظيم : إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . ( الحجرات : 13 ) .

وتبين آية أخرى أن الله يأمرنا بمكارم الأخلاق وينهانا عن المنكرات ، فيقول سبحانه : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . ( النحل : 90 ) .

مع آيات السورة

1 ، 2- قطّب الرسول صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض ، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه . وفي العدول عن الخطاب للغيبة إلفات بلاغي ، سره عدم توجيه اللوم والعتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت إلى الخطاب بعد هاتين الآيتين ، عندما هدأت ثورة العتاب وبدأ التلطف .

3 ، 4- وما يعلمك أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير ، وأن يتحقق منه خير كبير ، وأن يشرق قلبه بنور الإيمان ، فتنفعه الموعظة : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين . ( الزمر : 22 ) .

1- 7- أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك ، وعما عندك من الخير والإيمان ، أما هذا فأنت تتصدى له ، وتحفل بأمره ، وأنت مبلّغ عن الله ، عليك البلاغ وليس عليك هداهم ، ولا يضيرك إعراضهم .

2- 10- وأما عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءك طائعا ساعيا يخشى ويتوقى ، فأنت تتشاغل عنه بهؤلاء الأشراف من قريش ، ثم تتصاعد نبرة العتاب لتبلغ حد الردع والزجر .

11-16- كلاّ . لا يحدث ذلك أبدا ، إن هداية القرآن غالية عالية ، فمن شاء اهتدى بها وتذكر أحكامها ، واتعظ بها وعمل بموجبها ، وهذا الوحي كريم على الله ، كريم في كل اعتبار ، منزه عن النقص والضلالة ، قد دوّن في صحف مكرمة ذات شرف ورفعة ، مطهرة من النقائص والضلالات ، تنزل بواسطة الملائكة على الأنبياء ، وهم يبلّغونها للناس .

والملك سفير لتبليغ وحي السماء ، والرسول سفير لتبليغ الدعوة إلى الناس ، وهم كرام أبرار أطهار ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

وقد بلغ النبي الكريم وحي السماء ، وغيّر كثيرا من المفاهيم السائدة ، ومن اعتزاز الناس بمقاييس الجاهلية ، وجعل أسامة بن زيد أميرا على جيش به أجلاء الصحابة ، ووضع في نفوس أصحابه تقدير الناس بأعمالهم فقط لا بأحسابهم وأنسابهم ، يقول عمر بن الخطاب : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته . ويقول عمر أيضا : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا . أي : إن أبا بكر أعتق بلالا مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم .

17- 23- قتل الإنسان ما أكفره . دعاء على الكافر ، فإنه ليستحق القتل على شدة كفره وجحوده ، ونكرانه لنعم الله عليه ، لماذا يتكبر وهو مخلوق من أصل متواضع زهيد ، يستمد كل قيمة من فضل الله ونعمته ، ومن تقديره وتدبيره ؟ لقد خلقه الله من نطفة فمرت النطفة بأطوار كثيرة في بطن الأم ، ومرّ هو بأطوار عدة خارج بطنها ، رضيعا فطفلا فشابا فكهلا فشيخا ، ثم يسر الله له سبيل الهداية ، ومنحه العقل والإرادة ، ومكنه من القدرة على الاختيار ، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته .

قال تعالى : إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا . ( الإنسان : 3 ) .

أي : بينّا له الطريق ومنحناه القدرة على الاختيار ، وبينّا له سبيل الهدى والضلال ، فإما أن يشكر ربه ويمتثل لأمره ، وإما أن يكفر بنعمه ويخالف أمره ، حتى إذا انتهت حياة الإنسان سلب الله روحه ، ومنّ عليه بالموت وهو نعمة كبرى ، ولولا الموت لأكل الناس بعضهم بعضا ، ولضاقت الأرض بمن عليها ، ومن نعم الله أن شرع دفن الميت ، وحفظه في باطن الأرض ، حتى لا يترك على ظهرها للجوارح والكواسر .

ومن نعم الله أيضا أن يبعث الموتى ، وينشرهم ويخرجهم من قبورهم ، لمكافأة الطائع ومعاقبة العاصي .

عجبا للإنسان الجاحد فإنه بالرغم من النعم الظاهرة والباطنة التي أحاطه الله تعالى بها لم يمتثل ما أمره الله به .

24-32- فليتأمل الإنسان تدبير الله ، لإمداده بأسباب الحياة والنمو ، ولينظر إلى ألصق شيء إليه ، وألزم شيء له وهو الطعام ، كيف يسر الله الحصول عليه ، فقد أنزل الله سبحانه المطر من السماء ، فانتفعت به الأرض ، وانشقت عنه ثمانية أنواع من النبات ، هي :

1- الحب ، كالحنطة والشعير والأرز .

2- العنب والفاكهة .

3- القضب ، وهو ما يؤكل من النبات رطبا وغضّا طريا .

4 ، 5- الزيتون والنخل ، وفيهما من القيمة الغذائية الشيء الكثير ، والبلح طعام الفقير وحلوى الغني ، وزاد المسافر والمقيم .

6- بساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ، وذات حوائط تحيط بها ، غلبا . جمع غلباء ، أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار .

7- وفاكهة يتمتع الإنسان بأكلها ، كالتين والتفاح والخوخ وغيرها .

8- والأبّ ، أي مرعى الحيوان خاصة .

تلك قصة الطعام الذي أنبتته يد القدرة ، ويسرت لذلك المطر والرياح والشمس والهواء ، وعديدا من العوامل والأسرار الخفية ، فيتمتع بأكله الإنسان والحيوان .

33- 42- فإذا جاءت القيامة التي تصخّ الآذان بسماع أهوالها ، في ذلك اليوم يشتد الهول ، وينشغل الإنسان بنفسه عن أقرب الناس إليه ، ويفر من أخيه ، وأمه وأبيه ، وزوجته وبنيه ، لقد اشتد الفزع النفسي ، ففرّ الإنسان ممن يفديهم بنفسه في الدار الدنيا ، وقد شغله خوف الحساب ، ومشاهد القيامة ، ومظهر البعث والحشر والجزاء عن كل شيء .

في ذلك اليوم ترى وجوها مستنيرة مشرقة ترجو ثواب ربها ، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها . وترى وجوها أخرى تغشاها غبرة الحزن والحسرة ، ويعلوها سواد الذلّ والانقباض ، هؤلاء هم الذين جحدوا آيات ربهم ، ولم يؤمنوا بالله ورسله ، وانتهكوا الحرمات وتعدوا حدود الله ، فاستحقوا كلمة العذاب .

مقاصد السورة

1- عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى .

2- ذكر شرف القرآن ، وبيان أنه موعظة لمن عقل وتدبر .

3- إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق الإنسان والنظر في طعامه وشرابه .

4- أهوال يوم القيامة .

5- انقسام الناس في الآخرة إلى سعداء وأشقياء .

المساواة في الإسلام

بسم الله الرحمان الرحيم

{ عبس وتولّى 1 أن جاءه الأعمى 2 وما يدريك لعله يزّكّى 3 أو يذّكّر فتنفعه الذكرى 4 أما من استغنى 5 فأنت له تصدّى 6 وما عليك ألاّ يزّكّى 7 وأما من جاءك يسعى 8 وهو يخشى 9 فأنت عنه تلهّى 10 كلاّ إنها تذكرة 11 فن شاء ذكره 12 في صحف مكرّمة 13 مرفوعة مطهّرة 14 بأيدي سفرة 15 كرام بررة 16 }

المفردات :

عبس : قطّب وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم .

تولى : أعرض بوجهه الشريف صلى الله عليه وسلم .

لعله يزكى : يتطهر بتعليمك من دنس الجهل .

أو يذكر : يتعظ بنصائحك .

1

التفسير :

1 ، 2 ، 3 ، 4- عبس وتولّى* أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعله يزّكّى* أو يذّكّر فتنفعه الذكرى .

يجئ رجل فقير ضرير ، هو عبد الله بن مكتوم ، وأم مكتوم كنية أمه ، واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية ، وقد أسلم بمكة قديما ، وكان أعمى ، وقد عمي بعد إبصار ، وقيل : ولد أعمى .

أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش وأشرافها ، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم خلق كثير ، فقال ابن أم مكتوم ، يا رسول الله ، أقرئني وعلّمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، وهو لا يعلم انشغاله صلى الله عليه وسلم بالقوم ، فكره صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وظهرت الكراهية في وجهه ، فعبس وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآيات عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

عبس وتولّى* أن جاءه الأعمى .

بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب ، وفي هذا الأسلوب ، إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب سبحانه أن يواجه به نبيه وحبيبه ، عطفا عليه ورحمة به ، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه .

والمعنى :

قطّب النبي صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض لأن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى جاء إليه ساعيا ، طالبا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلّمه ، والأعمى لم يكن مشاهدا للأشخاص الذين انشغل النبي صلى الله عليه وسلم بمحاورتهم ومحاولة إقناعهم بالإسلام والقرآن والإيمان .

وما يدريك لعله يزّكّى* أو يذّكّر فتنفعه الذكرى .

وما يعلمك يا محمد ، لعل هذا الأعمى الفقير يصير زاكيا متطهرا من الذنوب بسبب ما يتعلمه منك ، أو يتذكر فيتعظ بما تعلّمه من المواعظ فتنفعه الموعظة .

وكان هذا التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة ترك الاحتياط وترك الأفضل ، وأراد الحق سبحانه أن يوجّه الأمة كلها في شخص رسولها صلى الله عليه وسلم ، أن تكون العناية بالمخبر لا بالمظهر ، فهذا الأعمى الفقير له رغبة في معرفة الحق وتعلّم أمور الدين ، فالاتجاه إليه وتعليمه أولى من الانشغال بالأغنياء الأقوياء ، المعرضين عن الحق وعن الإسلام .

قال الشيخ محمد عبده في تفسير جزء عمّ ما يأتي :

فكأنه يقول : يا أيها النبيّ ، إن أقبلت فأقبل على العقل الذكيّ ، والقلب النقيّ ، وإياك أن تنصرف عنه إلى ذي الجاه القوي ، والمكان العليّ ، فذلك إنسان بنفسه ، حيّ بطبعه ، وهذا غائب عن حسّه ، معدوم بذاته ، موجود بجمعه ، وفي ذلك من تأديب الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما لو تأدبوا به لكانوا اليوم أرشد الأمم –هداهم الله .

وما يدريك لعله يزّكّى* أو يذّكّر فتنفعه الذكرى .

يتجه التعبير إلى الخطاب ، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم : وما يعلمك يا محمد ، لعل هذا الأعمى الفقير –إذا علّمته- أن يتطهر ، وأن تشرق نفسه ، وأن يسمو قلبه ، أو أن تتسلل الذكرى إلى نفسه ، والموعظة إلى فؤاده ، فتنفعه هذه الذكرى ، وتوجهه إلى الخير والنفع .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وآياتها اثنان وأربعون

بسم الله الرحمان الرحيم

{ عبس وتولى . . . } روي أن ابن أم مكتوم – عمرو بن قيس ، وكان أعمى وأسلم قديما بمكة – أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش ؛ يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم خلق كثير ؛ فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني مما علمك الله . وكرر ذلك ، وهو لا يعلم تشاغله يصلى الله عليه وسلم بالقوم . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه . فنزلت هذه الآيات معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء نجواه معهم وذهابه إلى أهله . وقيل : في أثنائها . فكان الرسول بعد ذلك يكرمه إذا رآه ويقول : ( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ! ) ، ويبسط له رداءه . واستخلفه على المدينة مرتين . وكان المهاجرين الأولين . قتل شهيدا بالقادسية . والعبوس : قطوب الجبين من ضيق الصدر . والتولي إذا عدي بعن لفظا أو تقديرا فمعناه الإعراض بالجسم ، أو بترك الإصغاء .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة عبس مكية وآياتها ثنتان وأربعون ، نزلت بعد سورة النجم ، وتسمى أيضا سورة السّفرة . ولهذه السورة جو خاص ، ذلك أنها بُدئت بعتاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، من أجل رجل أعمى جاءه يطلب أن يتعلم القرآن فيما كان عند رسول الله عدد من زعماء قريش ، يدعوهم للإسلام ويذكّرهم بأيام الله ، ويحذّرهم بطشه وجبروته ، ويعِدهم أحسن الثواب إن هم أسلموا . وكان شديد الحرص على إسلامهم ، لأنه يعلم أنه سيُسلم خلق كثير إذا هم أسلموا . فلما جاءه عبد الله بن أم مكتوم ( وهو رجل أعمى ) وألحّ بالسؤال أن يعلمه مما علّمه الله ، تضايق منه الرسول الكريم وعَبَسَ في وجهه ، وأعرض عنه ، وشُغل عنه بزعماء قريش .

وبعد العتاب الذي استغرق عشر آيات ، بيّن الله تعالى أن هذا القرآن ذكرى وموعظة لمن كان له عقل وتدبّر ما جاء فيه ، وأنه في صحف مكرّمة عالية القدر والمكانة ، منزهة عن كل نقص ، بأيدي ملائكة كرام بررة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله .

ثم بعد ذلك أخذت السورة تعالج جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه ، وتذكره بمصدر وجوده وأصل نشأته من ماء مهين ، ثم كيف سيّره ربه إلى الطريق السويّ ، وعلّمه ما لم يكن يعلم ، ثم مصيره إلى الموت والبعث للحساب .

بعد ذلك يذكّره الله بتوجيهه إلى أمس الأشياء به ، وهو طعامه وشرابه . . كيف ينزل الماء من السماء ، ويُنبت به الحَبّ والفاكهة ، ويجعل الحدائق الجميلة كثيفة الأغصان ، كل ذلك له ولأنعامه التي يستعملها ويقتات بلحومها .

وتأتي الخاتمة بعرض يوم القيامة ، { فإذا جاءت الصاخّة } ونُشر الناس كالفراش المبثوث ، في ذلك اليوم يهرب المرء من أخيه وأمه وأبيه ، وزوجته وبنيه ، ويكون { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } ويَشغله .

عبس : قطّب وجهه من ضيق الصدر .

تولّى : أعرض .

نزلت هذه السورةُ الكريمة في عبدِ الله بن أُم مكتوم ابن خالِ خديجة بنتِ خويلد رضي الله عنها ، وكان رجلاً أعمى ، ومن أول الناس إسلاما . وكان من المهاجرين الأولين والمؤذِّنَ الثاني لرسول الله ، وقد استخلفه الرسولُ الكريم على المدينة ، وكان يصلّي بالناس مرارا . وقد جاء هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده جماعة من زعماءِ قريش منهم : عتبة وشَيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهلٍ عمرو بن هشام ، والعباسُ بن عبد المطلب ، وأُميةُ بن خلف ، والوليدُ بن المغيرة . وكان النبي الكريم محتفياً بهم يدعوهم إلى الإسلام ويرغّبهم فيه رجاءَ أن يُسلموا ، لأنه يعلم أنهم إذا أسلموا تَبِعَهم خَلْقٌ كثير .

فجاء ابنُ أُم مكتوم وقال : يا رسولَ الله ، أرشِدني ، وعلِّمني مما علمك الله . . وكرر ذلك وهو لا يعلم من عنده . فكره الرسولُ قَطْعَه لكلامه ، وظهر ذلك على وجهه ، إذ عَبَسَ وأعرض عنه .

وقد عاتب الله نبيَّه الكريمَ بأنّ ضَعْفَ ذلك الأعمى وفقره لا ينبغي أن يكون باعثاً على كراهةِ كلامه والإعراضِ عنه ، فإنه حيُّ القلب ذكيُّ الفؤاد ، إذا سمع الحكمةَ وعاها ، فيتطهَّرُ بها من أوضارِ الشِرك .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة عبس وهي مكية

{ 1 - 10 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى }

وسبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه ويتعلم منه .

وجاءه رجل من الأغنياء ، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ، فمال صلى الله عليه وسلم [ وأصغى ] إلى الغني ، وصد عن الأعمى الفقير ، رجاء لهداية ذلك الغني ، وطمعا في تزكيته ، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف ، فقال : { عَبَسَ } [ أي : ] في وجهه { وَتَوَلَّى } في بدنه ،

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع ، وهي إحدى وأربعون آية .

فيه ست مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " عبس " أي كلح بوجهه ، يقال : عبس وبسر . وقد تقدم . " وتولى " أي أعرض بوجهه .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة{[1]} عبس{[2]} وتسمى الصاخة .

مقصودها{[3]} شرح " إنما أنت منذر من يخشاها " بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية{[4]}بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان ، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه{[5]} والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل ، والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيء للكفر والفجور ، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأعمال ، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبه أرق وألطف فكان أخشى ، فكان الإقبال عليه أحب وأولى ، واسمها " عبس " هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته ، / وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة { بسم الله } الذي له القدرة البالغة والحكمة الباهرة { الرحمن } الذي عم بنعمة{[6]} الإيجاد الظاهرة ثم بآيات البيان الزاهرة{[7]} { الرحيم* } الذي خص أولياءه بأن أتم نعمته عليهم ، فكانت بهم إلى مرضاته سائرة .

لما قصره سبحانه على إنذاره من يخشى ، وكان قد جاءه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم الأعمى-{[71587]} رضي الله تعالى عنه ، وكان من السابقين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مجيئه مشتغلاً بدعاء ناس من صناديد قريش إلى الله تعالى ، وقد وجد منهم نوع لين ، فشرع عبد الله رضي الله عنه يسأله وهو لا يعلم ما هو فيه من الشغل ، يسأله-{[71588]} أن يقرئه ويعلمه مما علمه الله-{[71589]} فكره أن يقطع كلامه مع أولئك خوفاً من أن يفوته منهم ما يرجوه من إسلامهم المستتبع لإسلام ناس كثير من أتباعهم ، فكان يعرض عنه ويقبل عليهم ، وتظهر الكراهة في وجهه ، لاطفه سبحانه وتعالى بالعتاب عن التشاغل عن أهل ذلك بالتصدي لمن شأنه أن لا يخشى لافتنانه بزينة الحياة الدنيا وإقباله بكليته على ما يفنى ، فقال مبيناً لشرف الفقر{[71590]} وعلو مرتبته وفضل أهل الدين وإن هانوا ، وخسة أهل الدنيا وإن زانوا ، معظماً له صلى الله عليه وسلم بسياق الغيبة كما قال سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة : وعلى من ههنا - يشير إلى ناحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنها حياء منه صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له : { عبس } أي فعل الذي هو أعظم خلقنا ونجله عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء من تقطيب الوجه بما له من الطبع البشري حين يحال بينه وبين مراده ، وآذن بمدحه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك خلاف ما طبعه عليه سبحانه من رحمة المساكين ومحبتهم والسرور بقربهم وصحبتهم بقوله-{[71591]} { وتولى * } أي كلف نفسه الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة الله


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[71587]:زيد من ظ و م.
[71588]:زيد من ظ و م.
[71589]:زيد من ظ و م.
[71590]:من ظ، وفي الأصل و م: الفقه.
[71591]:زيد من م.