قرارا : مسكنا ومستقرا تستقرّون فيه .
بناء : سقفا وقبة مضروبة عليكم .
وصوّركم : خلقكم في تناسب واستعداد لمزاولة أعباء الحياة ، فجعل للإنسان عينين ويدين ورجلين ولسانا وشفتين .
الطيبات : الحلائل والمستلذات من المطعم والمشرب ، والملبس وغيرها .
64- { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين } .
تستمر الآيات في تعدد أنعم الله على الإنسان ، فقد خلق الأرض مستقرة لينام الإنسان عليها ، ويزرع ويتاجر ويسافر ، ويتكسب على ظهرها ، كما جعل السماء سقفا مرفوعا كالقبة المبنية ، وبارك في الأرض وقدّر فيها أقواتها ، وبارك في السماء ، وزينها بالنجوم والشموس والأقمار ، وجعل الفضاء والهواء والرياح ، والأمطار والبحار والأنهار لعمارة هذا الكون .
كما امتن على الإنسان بأن خلقه في أحسن تقويم ، وجعله منتصب القامة ، مهيأ للاستفادة بالنعم ، فخلق له للنظر عينين ، وللسمع أذنين ، وللبطش يدين ، وللمشي رجلين ، وخلق له لسانا وشفتين ، وأبدع الخلقة بقدرته ، وهو على كلّ شيء قدير ، فبين الفكّين توازن ، لو ارتفع أحدهما مقدار ورقة سيجارة ، أو تضخّم ضرس أكثر مما هو عليه ، لأدّى إلى عرقلة الكلام وتلكؤ اللسان .
ورزقكم من الحلال ، ومن لذائد المطعم والمشرب ، وما يستحق الشكر والثناء على الله الخالق الرازق .
{ ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين } .
ذلكم المتصف بهذه الصفات المذكورة ، خالق الكون والإنسان ، وهو الله ربكم وخالقكم ، الذي لا تصلح الربوبية لغيره ، فتقدس وتنزّه الله ، { ربّ العالمين } ، خالق الإنس والجن والطير والملائكة ، فتنزه الله عن صفات النقص ، وعما لا يليق به من الصاحبة والولد ، وكثرت بركاته وعطاياه فأنعم به من خالق حافظ منعم متفضل .
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } أي : قارة ساكنة ، مهيأة لكل مصالحكم ، تتمكنون من حرثها وغرسها ، والبناء عليها ، والسفر ، والإقامة فيها .
{ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } سقفًا للأرض ، التي أنتم فيها ، قد جعل الله فيها ما تنتفعون به من الأنوار والعلامات ، التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } فليس في جنس الحيوانات ، أحسن صورة من بني آدم ، كما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }
وإذا أردت أن تعرف حسن الآدمي وكمال حكمة الله تعالى فيه ، فانظر إليه ، عضوًا عضوًا ، هل تجد عضوًا من أعضائه ، يليق به ، ويصلح أن يكون في غير محله ؟ وانظر أيضًا ، إلى الميل الذي في القلوب ، بعضهم لبعض ، هل تجد ذلك في غير الآدمين ؟ وانظر إلى ما خصه الله به من العقل والإيمان ، والمحبة والمعرفة ، التي هي أحسن الأخلاق المناسبة لأجمل الصور .
{ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } وهذا شامل لكل طيب ، من مأكل ، ومشرب ، ومنكح ، وملبس ، ومنظر ، ومسمع ، وغير ذلك ، من الطيبات التي يسرها الله لعباده ، ويسر لهم أسبابها ، ومنعهم من الخبائث ، التي تضادها ، وتضر أبدانهم ، وقلوبهم ، وأديانهم ، { ذَلِكُمُ } الذي دبر الأمور ، وأنعم عليكم بهذه النعم { اللَّهُ رَبُّكُمْ } { فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : تعاظم ، وكثر خيره وإحسانه ، المربي جميع العالمين بنعمه .
ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده ، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند ، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد ، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته ، واضح في العقول معرفته ، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحوداً ، فقال دالاً بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين ، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك ، بما حصل فيه من الاختلاف ، فقال : { الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء { الذي جعل } أي وحده { لكم الأرض } أي مع كونها فراشاً ممهداً { قراراً } مع كونها في غاية الثقل ، ولا ممسك لها سوى قدرته { والسماء } على علوها وسعتها مع كونها افلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار { بناء } مظلة كالقبة من غير عماد حامل ، ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض ، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر ، فالآية من الاحتباك : ذكر القرار أولاً دليلاً على الدوران ثانياً ، والبناء ثانياً دليلاً على الفراش أولاً .
ولما ذكر المسكن ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات ، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها ، ولا تشبه واحدة منها الأخرى ، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال : { وصوركم } والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع { فأحسن صوركم } على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها ، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسندوا انطباع تصويرها إليه ، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك .
ولما ذكر المسكن والساكن ، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال : { ورزقكم من الطيبات } الشهية الملائمة للطبائع النافعة على وجه لا احتياج معه بوجه ، فلا دليل أدل على تمام العلم وشمول القدرة ووجود الاختيار من هذا التدبير في حفظ المسكن والسقف وتدبير ما به البقاء على وجه يكفي الساكن من جميع الوجوه على مر السنين وتعاقب الأزمان ، وتبث من الساكن - مع أنه قطعة يسيرة جداً من أديم الأرض - أنسالاً شعبهم شعباً فرعها إلى فروع لا تسعها الأرض ، فدبر بحكمته وسعة علمه وقدرته تدبيراً وسع لهم به الأرض ، وعمهم به الرزق ، كما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن الحسن أنه قال : لما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام : إن الأرض لا تسعهم ، قال : فإني جاعل موتاً ، قالوا : إذا لا يهنأهم العيش ، قال : فإني جاعل أملاً .
ولما دل هذا قطعاً على التفرد ، قال على وجه الإنتاج : { ذلكم } أي الرفيع الدرجات { الله } أي المالك لجميع الملك ، ودلهم على ما مضى بتربيتهم وما فيها من بديع الصنائع فقال : { ربكم } أي لا غيره ، ولما أفاد هذا الدليل تربية لا مثل لها ، دالة على إحاطة العلم وتمام القدرة على وجه لا حاجة معه مع حسنه وثباته تسبب عنه ولا بد قوله : { فتبارك } أي ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض { الله } أي المختص بالكمال ، ورقى الخطاب وعظم إيضاحاً للدلالة فقال : { رب العالمين * } كلهم أنتم وغيركم ،