تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَيۡلٞ لِّلۡمُطَفِّفِينَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المطففين

أهداف سورة المطففين

( سورة المطففين مكية ، وآياتها 32 آية ، وهي آخر سورة نزلت بمكة )

وهي سورة تعالج طغيان الغنى ، واستغلال الفقراء ، وتحارب تطفيف الكيل والميزان ، وتبين أن صحف أعمال الفجار في أسفل سافلين ، وأن كتاب أعمال الأبرار في أعلى عليين ، كما وصفت السورة النعيم المقيم الذي يتمتع به الأبرار في الجنة ، وبينت أن المجرمين كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا ، وفي يوم القيامة يتغير الحال ، فيسخر المؤمن من الكافر ، ويتمتع المؤمن بألوان النعيم .

مقاطع السورة

تتألف المطففين من أربعة مقاطع :

المقطع الأول : يبدأ بإعلان الحرب على المطففين ، وتهديدهم بالجزاء العادل ، عند البعث والحساب . ( الآيات 1-6 ) .

المقطع الثاني : يتحدث عن الفجار في شدة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء ، وبيان لسبب هذا العمى ، وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم . ( الآيات 7-17 ) .

المقطع الثالث : يعرض الصفحة المقابلة ، صفحة الأبرار ، ورفعة مقامهم ، والنعيم المقرر لهم ونضرته التي تفيض على وجوههم ، والرحيق الذي يشربونه وهم على الأرائك ينظرون ، وهي صفحة ناعمة وضيئة . ( الآيات 18-28 ) .

المقطع الرابع : يصف ما كان الأبرار يلقونه من استهزاء الفجار وسخريتهم وسوء أدبهم في دار الغرور ، ثم يقابل ذلك بما لقيه المؤمنون من التكريم ، وما لقيه المجرمون من عذاب الجحيم في يوم الدين . ( الآيات 29-36 ) .

من أسباب نزول السورة

كان تطفيف الكيل منتشرا في مكة والمدينة ، وهو يعبر عن جشع التجار وطعمهم ، ورغبتهم في بخس حق المشتري .

روى أنه كان بالمدينة رجل يقال له ( أبو جهينة ) ، له كيلان أحدهما كبير والآخر صغير ، فكان إذا أراد أن يشتري من أصحاب الزروع والحبوب والثمار اشترى بالكيل الكبير ، وإذا باع الناس كال للمشتري بالكيل الصغير . هذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع ، واستولى عليهم الجشع والنهم ، هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد ، وهم الذين توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم وتهددههم بقوله : ( خمس بخمس ) ، قيل : يا رسول الله ، وما خمس بخمس ؟ قال : ( ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت الفاحشة في قوم يتعامل بها علانية إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن قبلهم ، ولا طفف قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور الحكام ، وما منع قوة الزكاة إلا حبس عنهم المطر ) .

مع آيات السورة

1- هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء الذين يبخسون الكيل والميزان .

والتطفيف لغة ، التقليل ، فالمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن ، وإنما قيل له مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف .

2- إذا كان لهم عند الناس حق في شيء يكال أو يوزن ، وأٍرادوا أخذه منهم لا يأخذونه إلا تامّا كاملا .

3- وإذا كان للناس حق عندهم في مكيل أو موزون أعطوهم ذلك الحق مع النقص والخسارة .

ويلحق بالمطففين كل عامل لا يؤدي عمله ، وإنما يحرص على الأجر كاملا ، ويلحق بهم من يستلم كاملا ويبخس حق العامل أو ينقص أجره ، وكذلك كل من يقصر في أداء واجبه .

وعن ابن عباس : الكيل أمانة ، والوزن أمانة ، والصلاة أمانة ، والزكاة أمانة ، فمن وفّى وفّي له ، ومن طفف فقد علمتم ما قاله الله في المطففين .

4-6- ألا يخطر بباب هؤلاء أن هناك يوما للبعث ، تظهر فيه هذه الأعمال التي يخفونها على الناس ، وأنهم سيبعثون في هذا اليوم الشديد الأهوال ، الذي يقوم فيه الناس من قبورهم للعرض على رب العالمين الذي خلقهم ويعلم سرهم وعلانيتهم .

7- 9- إن للشر سجلاّ دوّنت فيه أعمال الفجار ، وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة ، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين ، كما تقول : إن كتاب حساب قرية كذا في السجل الفلاني المشتمل على حسابها وحساب غيرها من القرى .

والفجار هم المتجاوزون للحد في المعصية والإثم ، ولكل فاجر من هؤلاء الفجار صحيفة ، وهذه الصحائف في السجل العظيم المسمى سجين ، وهو عظيم الشأن له أهمية كبرى ، وهو كتاب مرقوم . أي : قد أثبتت فيه العلامات الدالة على الأعمال .

10 -13- هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء المكذبين يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء ، الذي أخبرهم به عن رب العالمين .

وما يكذّب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق ، وعمى عن الإنصاف ، واعتاد ارتكاب الآثام ، والإعراض عن الحق والهدى ، ولذلك إذا تليت عليه آيات القرآن ، أو أخبار البعث والجزاء أنكرها ، وقال : هذه أباطيل السابقين .

14- كلاّ . ليس كما يقولون ، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . أي : غطىّ على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية ، والقلب الذي يتعود على المعصية ينطمس ويظلم ، ويرين عليه غطاء كثيف ، يفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت .

روى الترمذيi والنسائي وابن ماجة : إن العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو ، فهو الرّان الذي قال الله تعالى : كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .

قول الحسن البصري : هو الذنب على الذنب يعمي القلب فيموت .

ثم يذكر شيئا عن مصيرهم يوم القيامة ، فيقول :

15 -17- كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون* ثم إنهم لصالوا الجحيم* ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون .

فهم في يوم القيامة مطرودون من رحمة الله ، محرومون من رؤيته في الآخرة ، ثم إنهم يصلون عذاب جهنم ، مع التأنيب والتقريع على تكذيبهم الحق ، وإنكارهم البعث والجزاء ، فيقال لهم : هذا الذي كنتم به تكذبون .

18 -21- إن كتاب الأبرار محفوظ في سجل ممتاز في أعلى مكان في الجنة ، وما أعلمك ما هذا المكان ، فهو أمر فوق العلم والإدراك ، كتاب مسطورة فيه أعمالهم ، وهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة ، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات .

22- 28- إن الأبرار لفي نعيم . إن الأبرار المتقين الذين يؤمنون بالله ، ويعملون أنواع البر من القربات والطاعات ، هؤلاء ينعمون بنعيم الجنة ، وهم على الأسرّة في الحجال ينظرون إلى ما أعد لهم من النعيم ، وأقرب ما يمثل الأرائك عندنا ما نسميه " الناموسية أو الكلة " .

وترى على وجوههم آثار النعمة وبهجتها ، يسقون خمرا مختومة بالمسك ، وفي ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون ، وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم ، باتباع أوامره واجتناب نواهيه . وهذا الشراب المعد لهم ممزوج بشراب آخر ينصب عليهم من عين عالية ، يشرب منها المقربون إلى رضوان ربهم . وقد سئل ابن عباس عن هذا فقال : هذا مما قال الله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون . ( السجدة : 17 ) .

( وقصارى ما سلف : أنه سبحانه وصف النعيم الذي أعده للأبرار في دار كرامته بما تتطلع إليه النفوس ، وبما يشوقها إليه ، ليكون حضّا للذين يعملون الصالحات على الاستزادة من العمل والاستدامة عليه ، وحثا لهمم المقصرين ، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزود من العمل الصالح ، ليكون لهم مثل ما لأولئك )ii .

29- 33- إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . كنوا يضحكون منهم استهزاء بهم وسخرية منهم ، إما لفقرهم ورثاثة حالهم ، وإما لضعفهم عن رد الأذى ، وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء ، فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا ، وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة .

وإذا مرّوا بهم يتغامزون . يغمز بعضهم لبعض بعينه ، أو يشير بيده ، أو يأتي بحركة متعارف عليها بينهم للسخرية من المؤمنين ، وإذا انقلب هؤلاء الضالون إلى أهلهم ، ورجعوا إلى بيوتهم ، رجعوا إليها فكهين متلذين بحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان ، إذ يرمونهم بالسخافة وقلة العقل .

وإذا رأوهم قالوا هؤلاء لضالّون . أي : وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال ، لأنهم نبذوا العقائد الفاسدة ، وتركوا عبادة الأصنام . ولم يرسل الله الكفار رقباء على المؤمنين ، ولا كلّفهم بمحاسبتهم على أفعالهم ، فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير .

روي أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جاء في نفر من المسلمين ، فرآه بعض هؤلاء الكفار ، فسخروا منه وممن معه ، وضحكوا منهم ، وتغامزوا بهم ، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه .

والآيات ترسم مشهدا لسخرية المجرمين من المؤمنين ، وقد يكون لنزولها سبب خاص ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ففي الآيات تعبير واقعي عن سخرية القوي الفاجر من المؤمن الصابر ، مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور .

يقول الإمام محمد عبده : ومن شأن القوي المستعزّ بكثرة أتباعه وقدرته ، أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ، ويدعوه إلى غير ما يعرفه ، وهو أضعف منه قوة وأقل عددا ، كذلك شأن جماعة من قريش-كأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وأتباعهم- وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع ، وتفرقت الشيع ، وخفي طريق الحق بين طرق الحق ، وجهل معنى الدين ، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه ، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطنiii .

34-36- فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . أي : في يوم القيامة –والكفار محجوبون عن ربهم ، يقاسون ألم هذا الحجاب- يضحك المؤمنون ، ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسرّ به ، وينكشف للمؤمنين ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم ، وخذلان أعدائهم ، على الأرائك ينظرون . وهم على سررهم في الجنة ينظرون إلى صنع الله بأعدائهم ، وإذلاله لمن كان يفخر عليهم ، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم جزاء وفاقا .

هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون . أي أنهم ينظرون ليتحققوا : هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون بهم في الدنيا ، وإنما سمي الجزاء على العمل ثوابا لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمل من خير أو شر .

وثوّب . مثل أثاب ، بمعنى جازي ، يقع في الخير وفي الشر ، وإن كان قد غلب على الثواب في الخير . أي : هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون ؟

***

مقاصد السورة

1- وعيد المطففين .

2- بيان أن صحائف أعمال الفجار في أسفل سافلين .

3- بيان أن صحائف أعمال الأبرار في أعلى عليين .

4- وصف نعيم الأبرار في مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم .

5- استهزاء المجرمين بالمؤمنين في الدنيا .

6- تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة .

7- نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم ، وما أعدّ لهم من النكال .

وعيد المطففين

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ويل للمطفّفين 1 الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون 2 وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون 3 ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون 4 ليوم عظيم 5 يوم يقوم الناس لرب العالمين 6 }

المفردات :

ويل : هلاك وبوار وعذاب ، أو مقر في جهنم .

للمطففين : المنقصين في الكيل أو الوزن ، وأصله من الطفيف ، وهو الشيء اليسير ، لأنه لا يكاد يأخذ إلا الشيء اليسير .

1

التفسير :

1- ويل للمطفّفين .

الويل واد في جهنم ، بعيد قراره ، شديد عذابه ، ويطلق الويل على الهلاك والعذاب ، أي عذاب شديد للمطففين الذين يظلمون الناس في المعاملة ، حيث يستوفون حقهم كاملا وربما زائدا ، ولا يوفّون حقوق الناس بل يظلمونهم .

والسورة مكية ، وقيل مدنية ، وربما كانت من أواخر ما نزل بمكة ، أو أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ليرتدع الناس عن تطفيف الكيل والميزان .

التطفيف في مكة

كانت في مكة طائفة من الأغنياء الأقوياء يحتكرون التجارة . ويستوفون حقهم كاملا ، ويبيعون للناس كيلا ناقصا أو وزنا ناقصا ، وقد جاء الإسلام عقيدة وشريعة ، أي ينظم علاقة الناس بالله ، وينظم علاقة الناس بالناس ، فحارب تطفيف الكيل والميزان ، وتوعّد هؤلاء القساة الظالمين بعذاب شديد .

التطفيف في المدينة

كان التطفيف موجودا في المدينة ، فلما أنزل الله سورة المطففين ارتدع أهل المدينة ، وتركوا التطفيف .

وروح القرآن توضح أن التطفيف محرّم ، وكذلك كل ظلم وغبن محرّم ، فمن يأخذ حقه كاملا ولا يؤدي عمله سليما منضبطا فهو مطفف ، ومن يؤجّر عاملا فيستوفي عمله ، ولا يعطيه أجره كاملا فهو مطفف ، وكذلك الصلاة أمانة ، والصوم أمانة ، والزكاة أمانة ، والكيل أمانة ، والوزن أمانة ، فمن وفّى وفّي له ، ومن طفف فقد رأينا ما قاله الله في المطففين .