الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{عٓسٓقٓ} (2)

{ حم * عسق } سمعت أبا إسحاق يقول : سمعت أبا عثمان بن أبي بكر المقري الزعفراني ، يقول : سمعت شيخي يقول : سمعت أبا بكر المؤمن يقول : سألت الحسين بن الفضل لِمَ قطّع { حم * عسق } ولم تقطّع { كهيعص } [ مريم : 1 ] ، و { المر } [ الرعد : 1 ] و { المص } [ الأعراف : 1 ] ؟ .

قال : لكونها من سور أوائلها { حم } ، فجرت مجرى نظائرها ، قبلها وبعدها ، وكان { حم } مبتدأ ، و { عسق } خبره ، ولأنّها آيتان ، وعدت أخواتها الّتي كتبت موصولة آية واحدة .

وقيل : لأنّ أهل التأويل لم يختلفوا في { كهيعص } وأخواتها ، إنّها حروف التهجي لا غيره ، واختلفوا في { حم } ، فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلوها فعلاً ، وقالوا ، معناه { حم } ، أي قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة .

فأمّا تفسيرها أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه : إنّ أبا الفرج المعافى بن زكريا القاضي ، أخبرهم عن محمد بن جرير ، حدثني أحمد ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا أبو المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج ، عن أرطأة بن المنذر ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال له وعنده حذيفة بن اليمان : أخبرني عن تفسير قول الله تعالى : { حم * عسق } قال : فأطرق ثمّ أعرض عنه ، ثمّ كرّر مقالته ، فلم يجيبه بشيء ، وكرّر مقالته ، ثمّ كرّر الثالثة ، فلم يجيبه شيئاً ، فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لِمَ كرهها ، نزلت في رجل من أهل بيته ، يقال له : عبد الاله أو عبد الله ، ينزل على نهر من أنهار المشرق ، يبني عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله تعالى في زوال ملكهم انقطاع دولتهم ومدّتهم ، بعث الله تعالى على احداهما ناراً ليلاً ، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كلّها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلاّ بياض يومها ذلك حتّى يجمع فيها كلّ جبّار عنيد منهم ، ثمّ يخسف الله تعالى بها وبهم جميعاً ، فذلك قوله تعالى : { حم * عسق } . يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء { حم * عسق } عدلاً منه ، سين سيكون فتنة ، قاف واقع بهما بهاتين المدينتين .

ونظير هذا التفسير ما أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن مخلد ، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي ، حدثنا عمار بن سيف الضبي أبو عبد الرّحمن ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي عن جرير بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصّراة تجتمع فيها جبابرة أهل الأرض ، تجبى إليها الخزائن ، يخسف بها ، وقال مرة : يخسف بأهلها ، فلهي أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة " .

وذكر عن ابن عباس إنّه كان يقرأ ( حم سق ) بغير عين ، ويقال : إنّ السين فيها كلّ فرقة كائنة ، وإنّ القاف كلّ جماعة كائنة ، ويقول : إنّ علياً إنّما كان يعلم الفتن بهما ، وكذلك هو في مصحف عبد الله ( حم سق ) .

وقال عكرمة : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله : { حم * عسق } .

فقال : ( ح ) حلمه ، ( م ) مجده ، ( عين ) علمه ، ( سين ) سناه ، ( ق ) قدرته ، أقسم الله تعالى بها .

وفي رواية أبي الجوزاء إنّ ابن عباس ، قال لنافع : ( عين ) فيها عذاب ، ( سين ) فيها مسخ ، ( ق ) فيها قذف . يدلّ عليه ما روي في حديث مرفوع إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه ، فقيل له : ما هذه الكآبة يارسول الله ؟ قال : " أخبرت ببلاء ينزل في أمتي . من خسف ومسخ وقذف ، ونار تحشرهم وريح تقذفهم في اليم ، وآيات متتابعات متصلة بنزول عيسى ( عليه السلام ) ، وخروج الدجال " .

وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح : ( ح ) حرب يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش ، ثمّ تُقضى إلى العرب ، ثمّ تُقضى إلى العجم ، ثمّ تمتد إلى خروج الدجال .

وقال عطاء : ( ح ) حرب في أهل مكّة يجحف بهم حتّى يأكلون الجيف وعظام الموتى ، ( م ) ملك يتحول من قوم إلى قوم ( ع ) عدو لقريش قصدهم ، ( س ) سيء يكون فيهم ، ( ق ) قدرة الله النافذة في خلقه .

وقال بكر بن عبد الله المزني : ( ح ) حرب تكون بين قريش والموالي ، فتكون الغلبة لقريش على الموالي ، ( م ) ملك بني أُمية ، ( ع ) علو ولد العبّاس ، ( سين ) سناء المهدي ( ق ) قوة عيسى ( عليه السلام ) حين ينزل ، فيقتل النصارى ويخرب البيع .

وقال محمد بن كعب : أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناءه وقدرته ، أن لا يعذب من عاد إليه بلا إله إلاّ الله مخلصاً له من قلبه ، وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير : ( ح ) من رحمن ، ( م ) من مجيد ، ( عين ) من عالم ، ( سين ) من قدوس ، ( ق ) من قاهر .

السدي : هو من الهجاء المقطع ، ( عين ) من العزيز ، ( سين ) من السلام ، ( ق ) من القادر .

وقيل : هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ( فالحاء ) حوضه المورود ، و ( الميم ) ملكة الممدود ، و ( العين ) عزه الموجود ، و ( السين ) سناؤه المشهود ، و ( القاف ) قيامه في المقام المحمود ، وقربه في الكرامة إلى المعبود .

وقال ابن عباس : ليس من نبيّ صاحب كتاب إلاّ وقد أوحيت { حم * عسق } إليه ، فلذلك قال : { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ }