{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ } : وما كان قول الربيين . والهاء والميم من ذكر أسماء الربيين . { إلاّ أنْ قالُوا } يعني ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبيهم . وقوله : { رَبّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَنا } يقول : لم يعتصموا إذ قتل نبيهم إلا بالصبر على ما أصابهم ، ومجاهدة عدوّهم ، وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوّهم . ومعنى الكلام : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا } . وأما الإسراف : فإنه الإفراط في الشيء ، يقال منه : أسرف فلان في هذا الأمر إذا تجاوز مقداره فأفرط ، ومعناه ههنا : اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام . وكان معنى الكلام : اغفر لنا ذنوبنا ، الصغائر منها والكبائر . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } قال : خطايانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أيو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } : خطايانا وظلمنا أنفسنا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد الله بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } يعني : الخطايا الكبار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : الكبائر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } قال : خطايانا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } يقول : خطايانا .
وأما قوله : { وَثَبّتْ أقْدَامَنا } فإنه يقول : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوّك وقتالهم ، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفرّ منهم ، ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم . { وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } يقول : وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوّة نبيك . وإنما هذا تأنيب من الله عزّ وجلّ عباده الذين فرّوا عن العدوّ يوم أحد وتركوا قتالهم ، وتأديب لهم ، يقول الله عزّ وجلّ : هلا فعلتم إذ قيل لكم : قتل نبيكم ، كما فعل هؤلاء الربيون ، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء ، إذ قتلت أنبياؤهم ، فصبرتم لعدوكم صبرهم ، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم ، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم ، كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوّهم ، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا ، فينصركم الله عليهم كما نصروا ، فإن الله يحبّ من صبر لأمره وعلى جهاد عدوّه ، فيعطيه النصر والظفر على عدوّه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرَافَنا في أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } : أي فقولوا كما قالوا ، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم ، واستغفروا كما استغفروا ، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ، ولا ترتدّوا على أعقابكم راجعين ، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم ، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم ، فلم يفعلوا كما فعلتم .
والقراءة التي هي القراءة في قوله : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ } النصب لإجماع قراء الأمصار على ذلك نقلاً مستفيضا وراثة عن الحجة . وإنما اختير النصب في القول ، لأن «إلا أن » لا تكون إلا معرفة ، فكانت أولى بأن تكون هي الاسم دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا ، ولذلك اختير النصب في كل اسم ولي «كان » إذا كان بعده «أن » الخفيفة ، كقوله : { فَما كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرّقُوهُ } وقوله : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا } . فأما إذا كان الذي يلي كان اسما معرفة ، والذي بعده مثله ، فسواء الرفع والنصب في الذي ولي «كان » ، فإن جعلت الذي ولي «كان » هو الاسم رفعته ونصبت الذي بعده ، وإن جعلت الذي ولي «كان » هو الخبر نصبته ورفعت الذي بعده ، وذلك كقوله جلّ ثناؤه : { ثُمّ كانَ عاقِبَةَ الّذِينَ أساءُوا السّوأى } إن جعلت «العاقبة » الاسم رفعتها ، وجعلت «السوأى » هي الخبر منصوبة ، وإن جعلت «العاقبة » الخبر نصبت ، فقلت : وكان عاقبة الذين أساءوا السوأى ، وجعلت السوأى هي الاسم ، فكانت مرفوعة ، وكما قال الشاعر :
لقدْ عَلِمَ الأقوَامُ ما كانَ دَاءَها *** بَثهْلانَ إلا الخِزْيُ مِمّنْ يَقُودُها
رُوى أيضا : «ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ » ، نصبا ورفعا ، على ما قد بينت ، ولو فعل مثل ذلك مع «أن » كان جائزا ، غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب .
وقوله تعالى : { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } الآية عطف على { فما وهنوا } لأنَّه لمّا وصفهم برباطة الجأش ، وثبات القلب ، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللِّسان الَّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع ، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله ، ولا بَدَر منهم تذمّر ، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه ، أو لعلَّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه ، أو في الوفاء بأمانة التكليف ، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم ، ثُمّ سألوه النصر وأسبابه ثانياً فقالوا : { وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } فلم يصُدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النَّصر ، وفي « الموطأ » ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل يقول : دعوت فلم يُستجب لي " فقصر قولهم في تلك الحالة الَّتي يندر فيها صدور مثل هذا القول ، على قولهم : { ربنا اغفر لنا } إلى آخره ، فصيغة القصر في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } قصر إضافي لردّ اعتقاد من قد يتوهمّ أنَّهم قالوا أقوالاً تنبىء عن الجزع ، أو الهلع ، أو الشكّ في النَّصر ، أو الاستسلام للكفار .
وفي هذا القصر تعريض بالَّذين جزِعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم : لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان .
وقدّم خبر ( كان ) على اسمها في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } لأنَّه خبر عن مبتدأ محصور ، لأنّ المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } فالقصر حقيقي لأنَّه قصر لقولهم الصّادر منهم ، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله ، فذلك القيد ملاحظ من المقام ، نظير القصر في قوله تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } [ النور : 51 ] فهو قصر حقيقي مقيّد بزمان خاص ، تقييداً منطوقاً به ، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأنّ المصدر المنسبك المؤوّل أعرف من المصدر الصّريح لدلالة المؤوّل على النسبة وزمان الحدث ، بخلاف إضافة المصدر الصّريح ، وذلك جائز في باب ( كان ) في غير صيغ القصر ، وأمَّا في الحصر فمتعيّن تقديم المحصور .
والمراد من الذنوب جميعها ، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبّر عنه هنا بالإسراف في الأمر ، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحدّ ، فلعلّه أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن ابن عبَّاس وجماعة ، وعليه فالمراد بقوله : أمرْنا ، أي ديننا وتكليفنا ، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه ، وتمحّض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصّغائر . ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسْراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال ، والاستعداد له ، أو الحذر من العدوّ ، وهذا الظاهر من كلمة أمْر ، بأن يكونوا شكُّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئاً عن سببين : باطنٍ وظاهر ، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب ، والظاهرُ هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر ، وهذا أولى من الوجه الأول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.