{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه ، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له وأذن له بالموت فحينئذ يموت ، فأما قبل ذلك فلن تموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ كِتابا مُؤَجّلاً } : أي أن لمحمد أجلاً هو بالغه إذا أذن الله له في ذلك كان .
وقد قيل : إن معنى ذلك : وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله .
وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله : { كِتابا مُؤجّلاً }¹ فقال بعض نحويي البصرة : هو توكيد ، ونصبه على : كتب الله كتابا مؤجلاً ، قال : وكذلك كل شيء في القرآن من قوله «حقّا » ، إنما هو : أحقّ ذلك حقّا ، وكذلك : { وَعْدَ اللّهِ } و{ رحْمَةً مِنْ رَبّكَ } وَ{ صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كلّ شيءٍ } و{ كِتَابَ اللّهِ عَلَيكُمْ } إنما هو : صنع الله هكذا صنعا ، فهكذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا ، فإنه كثير .
وقال بعض نحويي الكوفة في قوله : { وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ } معناه : كتب الله آجال النفوس ، ثم قيل : كتابا مؤجلاً ، فأخرج قوله : كتابا مؤجلاً ، نصبا من المعنى الذي في الكلام ، إذ كان قوله : { وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ باذْنِ اللّهِ } قد أدّى عن معنى «كتب » ، قال : وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك ، فهو على هذا النحو .
وقال آخرون منهم : قول القائل : زيد قائم حقا ، بمعنى : أقول زيد قائم حقا ، لأن كل كلام قول ، فأدّى المقول عن القول ، ثم خرج ما بعده منه ، كما تقول : أقول قولاً حقّا ، وكذلك ظنّا ويقينا ، وكذلك وَعْدَ الله ، وما أشبهه .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أن كل ذلك منصوب على المصدر من معنى الكلام الذي قبله ، لأن في كل ما قبل المصادر التي هي مخالفة ألفاظها ألفاظ ما قبلها من الكلام معاني ألفاظ المصادر وإن خالفها في اللفظ فنصبها من معاني ما قبلها دون ألفاظه .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : من يرد منكم أيها المؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنيا دون ما عند الله من الكرامة ، لمن ابتغى بعمله ما عنده { نُؤْتِهِ مِنْها } يقول : نعطه منها ، يعني : من الدنيا ، يعني : أنه يعطيه منها ما قسم له فيها من رزق أيام حياته ، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدّها لمن أطاعه ، وطلب ما عنده في الاَخرة . { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ } يقول : ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الاَخرة ، يعني ما عند الله من كرامته التي أعدّها للعاملين له في الاَخرة ، { نُؤْتِهِ مِنْهَا } يقول : نعطه منها ، يعني من الاَخرة¹ والمعنى : من كرامة الله التي خصّ بها أهل طاعته في الاَخرة . فخرج الكلام على الدنيا والاَخرة ، والمعنى ما فيهما . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ومَنْ يُرِدْ ثَواب الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها وَمْن يُرِدْ ثَوابَ الاَخِرِةِ نُؤْتِهِ مِنْها } : أي فمن كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الاَخرة ، نؤته ما قسم له منها من رزق ، ولا حظّ له في الاَخرة ، ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها ما وعده مع ما يُجْرَى عليه من رزقه في دنياه .
وأما قوله : { وَسَنَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين } يقول : وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه بطاعته إياي وانتهائه إلى أمري وتجنبه محارمي في الاَخرة ، مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي . وقال ابن إسحاق في ذلك بما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَسَنَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين } أي ذلك جزاء الشاكرين ، يعنى بذلك : إعطاء الله إياه ما وعده في الاَخرة مع ما يجرى عليه من الرزق في الدنيا .
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا }
جملة معترضة ، والواو اعتراضية .
فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول ، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام ، وتكون الآية لوماً للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسولَه من أن يسلّط عليه أعداؤُه ، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة . وفي قوله : { والله يعصمك عن الناس } [ المائدة : 67 ] عقب قوله : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] الدالّ على أنّ عصمته من النَّاس لأجل تبليغ الشَّلايعة . فقد ضمن الله له الحياة حتَّى يبلّغ شرعه ، ويتمّ مراده ، فكيف يظنّون قتله بيد أعدائه ، على أنَّه قبل الإعلان بإتمام شرعه ، ألا ترى أنَّه لمّا أنزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الآية . بكى أبو بكر وعلم أنّ أجل النَّبيء صلى الله عليه وسلم قد قرب ، وقال : ما كمُل شيء إلاّ نقص . فالجملة ، على هذا ، في موضع الحال ، والواو واو الحال .
وإن كان هذا إنكاراً مستأنفاً على الَّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت ، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلاً .
وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل ، فالجملة ، على هذا ، معترضة ، والواو اعتراضية ، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الَّتي يقصد فيها مداواة النُّفوس من عاهات ذميمة ، وإلاّ فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته ، { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] ، والمؤمن مأمور بحفظ حياته ، إلاّ في سبيل الله ، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل ، والمراد { بإذن الله } تقديره وقت الموت ، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر ، وهو ما عبّر عنه مرّة ب ( كن ) ، ومرة بقدر مقدُور ، ومرّة بالقلم ، ومرّة بالكتاب .
والكتاب في قوله : { كتاباً مؤجلاً } يجوز أن يكون اسماً بمعنى الشيء المكتوب ، فيكون حالاً من الإذن ، أو من الموت ، كقوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و« مؤجّلاً » حالاً ثانية ، ويجوز أن يكون { كتاباً } مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة ، وقوله : { مؤجلاً } صفة له ، وهو بدل من فِعله المحذوف ، والتَّقدير : كُتِب كتاباً مؤجّلاً أي مؤقتاً . وجعله صاحب « الكشاف » مصدراً مؤكّداً أي لِمضمون جملة { وما كان لنفس } الآية ، وهو يريد أنَّه مع صفته وهي { مؤجّلاً } يؤكِّد معنى { إلاّ بإذن الله } لأنّ قوله : { بإذن الله } يفيد أنّ له وقتاً قد يكون قريباً وقد يكون بعيداً فهو كقوله تعالى : { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] بعد قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] الآية .
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } .
أي من يرد الدنيا دون الآخرة ، كالَّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالَّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة ، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يُحرم من ثواب الآخرة وحظوظها ، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن ، وهل جاءت الشريعة إلاّ لإصلاح الدنيا والإعداد لِحياة الآخرة الأبدية الكاملة ، قال الله تعالى : { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وقال تعالى : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } أي الغنيمة أو الشَّهادة ، وغيرُ هذا من الآيات والأحاديث كثير . وجملة { وسنجزي الشاكرين } تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة . ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه ، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.