جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (57)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ } . .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا : أي صدّقوا الله ورسوله ، لا تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِبا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء ، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ومن قبل نزول كتابنا أولياء . يقول : لا تتخذوهم أيها المؤمنون أنصارا وإخوانا وحلفاء ، فإنهم لا يألونكم خبالاً وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة . وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هزوا ولعبا الدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره ، أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم ، ثم يراجع الكفر بعد يسيء من المدّة بإظهار ذلك بلسانه قولاً بعد أن كان يبدي بلسانه الإيمان قولاً وهو للكفر مستبطن ، تلعبا بالدين واستهزاء به ، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله : وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإذَا خَلَوْا إلى شيَاطِينِهمْ قَالُوا إنّا مَعَكُمْ إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ويَمُدّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك حاء الخبر عن ابن عباس .

حدثنا هناد بن السريّ وأبو كريب ، قالا : حدثنا يونس بن بكير ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ، ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما ، فأنزل الله فيهما : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِبا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفّارَ أوْلِياءَ . . . إلى قوله : وَاللّهُ أعلَمُ بِمَا كانُوا يَكْتُمُونَ .

فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من أن اتخاذ من اتخذ دين الله هزوا ولعبا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الاَية ، إنما كان بالنفاق منهم وإظهارهم للمؤمنين الإيمان واستبطانهم الكفر وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلو بهم : إنا معكم . فنهى الله عن موادّتهم ومحالفتهم ، والتمسك بحلفهم والاعتداء بهم أولياء ، وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالاً ، وفي دينهم طعنا وعليه إزراء . وأما الكفار الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله : مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفّارَ أوْلِياءَ فإنهم المشركون من عبدة الأوثان نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر أولياء دون المؤمنين .

وكان ابن مسعود فيما :

حدثني به أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن ابن مسعود ، يقرأ : «مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا » .

ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأوّلناه في ذلك .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة : «والكُفّارِ أوْلِياءَ » بخفض «الكفار » ، بمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، ومن الكفار أولياء . وكذلك ذلك في قراءة أبيّ بن كعب فيما بلغنا : «من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفارِ أولياء » . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة : والكُفّارَ أوْلِياءَ بالنصب ، بمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا والكفارَ ، عطفا بالكفار على الذين اتخذوا .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان متفقتا المعنى صحيحتا المخرَج ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فقد أصاب لأن النهي عن اتخاذ وليّ من الكفار نهي عن اتخاذ جميعهم أولياء ، والنهي عن اتخاذ جميعهم أولياء نهي عن اتخاذ بعضهم وليا . وذلك أنه غير مشكل على أحد من أهل الإسلام أن الله تعالى ذكره إذا حرّم اتخاذ وليّ من المشركين على المؤمنين ، أنه لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء ، ولا إذا حرم اتخاذ جميعهم أولياء أنه لم يخصص إباحة اتخاذ بعضهم وليا ، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم طلب الدليل على أولى القراءتين في ذلك بالصواب . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارىء بالخفض أو بالنصب لما ذكرنا من العلة .

وأما قوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنه يعني : وخافوا الله أيها المؤمنون في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار أن تتخذوهم أولياء ونصراء ، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدّمه إليكم بالنهي عنه إن كنتم تؤمنون بالله وتصدّقونه على وعيده على معصيته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (57)

استئناف هو تأكيد لبعض مضمون الكلام الّذي قبله ، فإنّ قوله : { يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياءَ } [ المائدة : 51 ] تحذير من موالاة أهل الكتاب ليظهر تميّز المسلمين . وهذه الآية تحذير من موالاة اليهود والمشركين الّذين بالمدينة ، ولا مدخل للنصارى فيها ، إذ لم يكن في المدينة نصارى فيهزأوا بالدّين . وقد عدل عن لفظ اليهود إلى الموصول والصلة وهي { الّذين اتّخذوا دينَكم هزؤاً } الخ لما في الصلة من الإيمان إلى تعليل موجب النّهي .

والدّين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة ، فهو عنوان عقل المتديّن وروائدُ آماله وباعث أعماله ، فالذي يتخذ دين امرىء هزُؤاً فقد اتّخذ ذلك المتديِّن هزؤاً ورمَقه بعين الاحتقار ، إذ عَدّ أعظَمَ شيء عنده سخرية ، فما دون ذلك أوْلى . والّذي يَرمُق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة ، لأنّ شرط الموالاة التماثل في التّفكير ، ولأنّ الاستهزاء والاستخفاف احتقار ، والمودّة تستدعي تعظيم الودود .

وأريد بالكفار في قوله : { والكفار } المشركون ، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفّار ، والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الّذين أظهروا الإسلام نفاقاً مثل رفاعة بن زيد ، وسويد بن الحارث ، فقد كان بعض المسلمين يوادّهما اغتراراً بظاهر حالهما . روي عن ابن عبّاس : أنّ قوماً من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم . وقال الكلبي : كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا : صياح مثل صياح العَير ، وتضاحكوا ، فأنزل الله هذه الآية .

وقرأ الجمهور { والكفّارَ } بالنّصب عطفاً على { الّذين اتخذوا دينَكم } المبيَّن بقوله : { من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب { والكفارِ } بالخفض عطْفاً على { الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، ومآل القراءتين واحد .

وقوله : { واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي احذروه بامتثال ما نهاكم عنه . وذكر هذا الشرط استنهاض للهمّة في الانتهاء ، وإلهابٌ لنفوس المؤمنين ليظهروا أنّهم مؤمنون ، لأنّ شأن المؤمن الامتثال . وليس للشرط مفهوم هنا ، لأنّ الكلام إنشاء ولأنّ خبرَ كان لَقب لا مفهوم له إذ لم يقصد به الموصوف بالتّصديق ، ذلك لأنّ نفي التّقوى لا ينفي الإيمان عند من يُعتدّ به من علماء الإسلام الّذين فهموا مقصد الإسلام في جامعته حقّ الفهم .

وإذا أريد بالموالاة المنهي عنها الموالاة التّامة بمعنى الموافقة في الدّين فالأمر بالتّقوى ، أي الحذر من الوقوع فيما نُهوا عنه معلّق بكونهم مؤمنين بوجه ظاهر . والحاصل أنّ الآية مفسّرة أو مؤوّلة على حسب ما تقدّم في سالفتها { ومن يتوّلهم منكم فإنّه منهم } [ المائدة : 51 ] .