القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا الْلّيْلَ وَالنّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلّ شَيْءٍ فَصّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : ومن نعمته عليكم أيها الناس ، مخالفته بين علامة الليل وعلامة النهار ، بإظلامه علامة الليل ، وإضاءته علامة النهار ، لتسكنوا في هذا ، وتتصرّفوا في ابتغاء رزق الله الذي قدره لكم بفضله في هذا ، ولتعلموا باختلافهما عدد السنين وانقضاءها ، وابتداء دخولها ، وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها وكُلّ شَيْءٍ فَصّلْناه تَفْصِيلاً يقول : وكلّ شيء بيناه بيانا شافيا لكم أيها الناس لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمه ، وتخلصوا له العبادة ، دون الاَلهة والأوثان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رُفيع ، عن أبي الطُفيل ، قال : قال ابن الكَوّاء لعليّ : يا أمير المؤمنين ، ما هذه اللّطْخة التي في القمر ؟ فقال : ويْحَك أما تقرأ القرآن فَمَحَوْنا آيَةَ اللّيْلِ ، فهذه محوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن عليّ بن ربيعة ، قال : سأل ابن الكوّاء عليا فقال : ما هذا السواد في القمر ؟ فقال عليّ : فَمَحَوْنا آيَةَ اللّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النهارِ مُبْصِرَةً هُوَ المَحْو .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن عمر ، قال : كنت عند عليّ ، فسأله ابن الكَوّاء عن السواد الذي في القمر ؟ فقال : ذاك آية الليل مُحِيت .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، قال : حدثنا عمران بن حُدير ، عن رفيع بن أبي كثير قال : قال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه : سَلُوا عما شئتم ، فقام ابن الكوّاء فقال : ما السواد الذي في القمر ، فقال : قاتلك الله ، هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك ؟ قال : ذلك مَحْو الليل .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ ، قال : حدثنا ابن عُفَير ، قال : حدثنا ابن لَهيعة ، عن حُيَيّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رجلاً قال لعليّ : ما السواد الذي في القمر ؟ قال : إن الله يقول : وجَعَلْنا اللّيْلَ والنّهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلْنا اللّيْلَ والنّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللّيْلِ قال : هو السواد بالليل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل ، والشمس آية النهار ، فمحونا آية الليل : السواد الذي في القمر .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : ذكر ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : وَجَعَلْنا الليْلَ والنّهَارَ آيَتَيْنِ قال : الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل فَمَحَوْنا آيَةَ اللّيْلِ قال : السواد الذي في القمر ، وكذلك خلقه الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَجَعَلْنا اللّيْل والنهارَ آيَتَيْنِ قال : ليلاً ونهارا ، كذلك خلقهما الله .
قال ابن جريج : وأخبرنا عبد الله بن كثير ، قال : فَمَحَوْنا آيَةَ اللّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً قال : ظلمة الليل وسُدْفَة النهار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَعَلْنا اللّيْلَ والنّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً : أي منيرة ، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَجَعَلْنا اللّيْلَ والنّهارَ آيَتَيْنِ قال : ليلاً ونهارا ، كذلك جعلهما الله .
واختلف أهل العربية في معنى قوله : وَجَعَلْنا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً فقال بعض نحويي الكوفة معناها : مضيئة ، وكذلك قوله : والنّهار مُبْصرا معناه : مضيئا ، كأنه ذهب إلى أنه قيل مبصرا ، لإضاءته للناس البصر . وقال آخرون : بل هو من أبصر النهار : إذا صار الناس يبصرون فيه فهو مبصر ، كقولهم : رجل مجبن : إذا كان أهله وأصحابه جبناء ، ورجل مضعف : إذا كانت رواته ضعفاء ، فكذلك النهار مبصرا : إذا كان أهله بصراء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : جعل لكم سبحا طويلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُلّ شَيْءٍ فَصّلْناهُ تَفْصِيلاً : أي بيّناه تبيينا .
«الآية » العلامة المنصوبة للنظر والعبرة ، وقوله { فمحونا } قالت فرقة : سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحيه ثلاثة مرات فمن هنالك كلَفُه وكونه منيراً فقط ، وقالت فرقة ، وهو الظاهر : إن قوله { فمحونا } إنما يريد في أصل خلقته ، وهذا كما تقول بنيت داري فبدأت بالأس{[7487]} ، ثم تابعت فلا تريد بالفاء التعقيب ، وظاهر لفظ الآية يقتضي أربع آيات لا سيما لمن بنى على أن القمر هو الممحو والشمس هي المبصرة ، فأما إن قدر الممحو في إظلام الليل والإبصار في ضوء النهار أمكن أن تتضمن الآية { آيتين } فقط ، على أن يكون فيها طرف من إضافة الشيء إلى نفسه ، وقوله { مبصرة } مثل قولك ليل قائم ونائم أي ينام فيه ويقام ، فكذلك «آية مبصرة » أي يبصر بها ومعها ، وحكى الطبري عن بعض الكوفيين أنه قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سلوا عما شئتم فقال ابن الكوّا : ما السواد الذي في القمر ؟ فقال له علي : قاتلك الله هلا سألت عن أم دينك وآخرتك ذلك محو الليل وجعل الله تعالى النهار مبصراً ليبتغي الناس الرزق ، وفصل الله ، وجعل القمر مخالفاً للشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر وللأيام ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس ، وقوله { كل شيء } منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر تقديره وفصلنا كل شيء فصلناه تفصيلاً وقيل : و { كل } عطف على { والحساب } فهو معمول { لتعلموا } ، والتفصيل البيان بأن تذكر فصول ما بين الأشياء وتزال أشباهها حتى يتميز الصواب من الشبه العارضة فيه ،
عطف على { ويدع الإنسان بالشر } [ الإسراء : 11 ] ، الخ . والمناسبة أن جملة { ويدع الإنسان } تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه لأن لكل شيء أجلاً ، ولما كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملاً على ليللٍ ونهارٍ متقضّييَنْ . وهذا شائع عند الناس في أن الزمان مُتقض وإن طال .
فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين وهو كونهما آيتين على وجود الصانع وعظيم القدرة ، وكونهما منتين على الناس ، وكون الناس ربما كرهوا الليل لظلمته ، واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم ، ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان ، وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة وهي نعمة السير في النهار . واكتفي بعدِّها عن عدّ نعمة السكون في الليل لظهور ذلك بالمقابلة ، وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب لأنه لو كان الزمن كله ظلمةً أو كله نوراً لم يحصل التمييز بين أجزائه .
وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكُفر والإيمان ، وللضلال والهدى ، فلذلك عُقب به قوله : { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] الآية ، وقوله : { إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم } إلى قوله : { أعتدنا لهم عذاباً } [ الإسراء : 9 10 ] ، ولذلك عقب بقوله بعده { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } الآية [ الإسراء : 15 ] . وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شأن بلاغة القرآن وإيجازه .
وتفريع جملة { فمحونا آية الليل } اعتراض وقع بالفاء بين جملة { وجعلنا الليل والنهار } وبين متعلقة وهو { لتبتغوا } .
وإضافة آية إلى الليل وإلى النهار يجوز أن تكون بيانية ، أي الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار . ويجوز أن تكون آية الليل الآية الملازمة له وهي القمر ، وآية النهار الشمس ، فتكون إعادة لفظ ( آية ) فيهما تنبيهاً على أن المراد بالآية معنى آخر وتكون الإضافة حقيقيّة ، ويصير دليلاً آخر على بديع صنع الله تعالى وتذكيراً بنعمة تكوين هذين الخلقين العظيمين . ويكون معنى المحو أن القمر مطموس لا نور في جرمه ولكنه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشمس على كُرَتِهِ ، ومعنى كون آية النهار مبصرة أن الشمس جعل ضوؤها سببَ إبصار الناس الأشياء ، ف { مبصرة } اسم فاعل ( أبصر ) المتعدي ، أي جعل غيره باصراً . وهذا أدق معنى وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة وعلماً فإن هذه حقيقة من علم الهيئة ، وما أعيد لفظ ( آية ) إلا لأجلها .
والمحو : الطمس . وأطلق على انعدام النور ، لأن النور يُظهر الأشياء والظلمة لا تظهر فيها الأشياءُ ، فشبه اختفاء الأشياء بالمحو كما دل عليه قوله في مقابله : { وجعلنا آية النهار مبصرة } ، أي جعلنا الظلمة آية وجعلنا سبب الإبصار آية . وأطلق وصف { مبصرة } على النهار على سبيل المجاز العقلي إسناداً للسبب .
وقوله : { لتبتغوا فضلا من ربكم } عِلة لخصوص آية النهار من قوله : { آيتين }
وجاء التعليل لحكمة آية النهار خاصةً دون ما يقابلها من حكمة الليل لأن المنة بها أوضح ، ولأن من التنبه إليها يحصل التنبه إلى ضدها وهو حكمة السكون في الليل ، كما قال : { لتسكنوا فيه والنهار مبصراً } كما تقدم في سورة [ يونس : 67 ] .
ثم ذكرت حكمة أخرى حاصلة من كلتا الآيتين . وهي حكمة حساب السنين ، وهي في آية الليل أظهر لأن جمهور البشر يضبط الشهور والسنين بالليالي ، أي حساب القمر .
والحساب يشمل حساب الأيام والشهور والفصول فعطفه على عدد السنين } من عطف العام على الخاص للتعميم بعد ذكر الخاص اهتماماً به .
وجملة { وكل شيء فصلناه تفصيلا } تذييل لقوله : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } باعتبار ما سيق له من الإشارة إلى أن للشر والخير الموعود بهما أجلاً ينتهيان إليه . والمعنى : أن ذلك الأجل محدود في علم الله تعالى لا يعدوه ، فلا يقرّبه استعجال ولا يؤخره استبطاء لأن الله قد جعل لكل شيء قدراً لا إبهام فيه ولا شك عنده .
أن للخير وللشر مَدى{[268]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتفصيل : التبيين والتمييز وهو مشتق من الفصل بمعنى القطع لأن التبيين يقتضي عدم التباس الشيء بغيره . وقد تقدم في قوله تعالى : { كتاب أحكمت آياته ثم فُصلت } صدر [ هود : 1 ] .
والتفصيل في الأشياء يكون في خلقها ، ونظامها ، وعلِم الله بها ، وإعلامه بها . فالتفصيل الذي في علم الله وفي خلقه ونواميس العوالم عام لكل شيء وهو مقتضى العموم هنا . وأما ما فصله الله للناس من الأحكام والأخبار فذلك بعض الأشياء ، ومنه قوله تعالى : يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون [ الرعد : 2 ] وقوله : { قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } [ الأنعام : 97 ] . وذلك بالتبليغ على ألسنة الرسل وبما خلق في الناس من إدراك العقول ، ومن جملة ما فصله للناس الإرشاد إلى التوحيد وصالح الأعمال والإنذار على العصيان . وفي هذا تعريض بالتهديد .
وانتصب { كل شيء } بفعل مضمر يفسره { فصلناه } لاشتغال المذكور بضمير مفعول المحذوف .