القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَطّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَماً مّنْهُمُ الصّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وفرّقنا بني إسرائيل في الأرض أمما ، يعني جماعات شتى متفرّقين . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن حبير ، عن ابن عباس : وَقَطّعناهُمْ فِي الأرْضِ أُمَما قال : في كلّ أرض يدخلها قوم من اليهود .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَقَطّعناهُمْ فِي الأرْضِ أُمَما قال : يهود .
وقوله : مِنْهُمُ الصّالِحُونَ يقول : من هؤلاء القوم الذين وصفهم الله من بني إسرائيل الصالحون ، يعني : من يؤمن بالله ورسله . وَمِنْهُمْ دُونَ ذلكَ يعني : دون الصالح . وإنما وصفهم الله جلّ ثناؤه بأنهم كانوا كذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وقبل كفرهم بربهم ، وذلك قبل أن يُبعث فيهم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه .
وقوله : وَبَلَوْناهُمْ بالحَسَناتِ وَالسّيّئاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : واختبرناهم بالرخاء في العيش ، والخفض في الدنيا ، والدعة والسعة في الرزق ، وهي الحسنات التي ذكرها جلّ ثناؤه . ويعني بالسيئات : الشدّة في العيش ، والشظف فيه ، والمصائب والرزايا في الأموال . لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : ليرجعوا إلى طاعة ربهم ، وينيبوا إليها ، ويتوبوا من معاصيه .
{ وقطّعناهم في الأرض أمما } وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و{ أمما } مفعول ثان أو حال . { ومنهم دون ذلك } تقديره ومنهم أناس دون ذلك أي منحطون عن الصلاح ، وهم كفرتهم وفسقتهم . { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالنعم والنقم . { لعلهم يرجعون } ينهون فيرجعون عما كانوا عليه .
عطف قصة على قصة ، وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم ، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع ، والتقطيع التفريق ، فيكون محموداً مثل { وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطاً } [ الأعراف : 160 ] ، ويكون مذموماً ، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع .
فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض .
و { أمماً } جمع أمّة بمعنى الجماعة ، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعاً مذموماً أي تفريقاً بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل ( شلمناصرُ ) مَلك بابل . ونقلهم إلى جبال انشور وأرض بابل سنة 721 قبل الميلاد . ثم أسر ( بُخْتنصّر ) مملكة يهوذا وملكها سنة 578 قبل الميلاد ، ونقل اليهود من ( أرشليم ) ولم يبق إلاّ الفقراء والعجّز . ثم عادوا إلى أرشليم سنة 530 ، وَبَنوْا البيت المقدس إلى أن أجلاهم ( طيطوس ) الروماني ، وخرّب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد ، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ .
ووصف الأمم بأنهم { منهم الصالحون } إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم ، وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلّوا بينها ، كما دل عليه قوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيّئات } .
وشمل قوله : { ومنهم دون ذلك } كل من لم يكن صالحاً على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم .
و { الصالحون } هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته ، وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلاّ قليلاً منهم : الذين آمنوا به ، وزادوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إيمانهم به ، بُعداً عن الصلاح إلاّ نفراً قليلاً منهم مثل عبد لله بن سَلام ، ومخيريق .
وانتصب { دونَ ذلك } على الظرفية وصفاً لمحذوف دل عليه قوله : { منهم } أي ومنهم فريق دون ذلك ، ويجوز أن تكون ( مِن ) بمعنى بعض اسماً عند من يجوّز ذلك ، فهي مبتدأ ، و { دون } خبر عنه .
ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل ، وإنهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل { منهم الصالحون } مثل ( دانيال ) وغيره ، ومنهم دون ذلك ، لأن التقسيم بمِنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين .
وقوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر ، أو في الجزع والكفر ، بسبب الحسنات والسيئات ، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تَحسن والتي تَسوء ، كما تقدم في قوله : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئةٌ يطيّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وعلى هذا يكون الحسنات والسيئات تفصيلاً للبلوى ، فالحسنات والسيئات من فعل الله تعالى ، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم ، توزيعاً لحال الضمير المنصوب في قوله : { بلوناهم } .
وجملة : { لعلهم يرجعون } استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات ، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك ، على حسب الوجهين المتقدمين .
والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان ، وهو معنى التوبة .
هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى { قَطّعناهم } .
ويجوز عندي أن يكون قوله : { وقطعناهم في الأرض أمماً } ، عوداً إلى أخبار المنن عليهم ، فيكون كالبناء على قوله : { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً } [ الأعراف : 160 ] ، فيكون تقطيعاً محموداً ، والمراد بالأرض : أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها ، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً } [ الأعراف : 160 ] للدلالة على أنهم عمروها كلها ، ويكون قوله : { منهم الصالحون } إنصافاً لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة ، وقوله : { وبلوناهم } إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.