اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَطَّعۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُمَمٗاۖ مِّنۡهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنۡهُمۡ دُونَ ذَٰلِكَۖ وَبَلَوۡنَٰهُم بِٱلۡحَسَنَٰتِ وَٱلسَّيِّـَٔاتِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (168)

قوله تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً } الآية .

هذه الآية تدلُّ على أن المراد بقوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } جملة اليهود ، ومعنى " قَطَّعناهُم " أي : فرقناهم في الأرض ، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا أرض مسكونة إلاَّ وفيها منهم أمة ، وهذا هو الغالبُ .

وقوله : " أمَماً " إمَّا حالٌ من مفعول " قطَّعْنَاهُم " ، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ " قطَّع " تضمَّن معنى : صَيَّر . و " مِنْهُمُ الصَّالحُون " صفة ل " أمم " .

وقال أبو البقاء : " أو بدل منه ، أي : من أمم " . يعني : أنَّهُ حالٌ من مفعول : " قطَّعناهُمْ " أي : فرَّقناهُم حال كونهم منهم الصَّالحون .

قيل : المرادُ ب " الصَّالحينَ " الذين كانوا في زمن موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - ؛ لأنَّهُ كان فيهم قوم يهدون بالحق .

وقال قتادةُ : هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصِّين{[16948]} .

وقال ابنُ عباس ومجاهد : هم الذين آمنوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ك : عبد الله بن سلام وغيره{[16949]} . وقوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } أي : من أقام على اليهوديِّةِ .

فإن قيل : لم لا يجُوزُ أن يكون قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } من يكون صالحاً إلاَّ أنَّ صلاحَهُ دون صلاح الأولين ؛ لأنَّهُ أقرب إلى الظاهرِ ؟

فالجوابُ : أن قوله بعد ذلك : " لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ " يدُل على أنَّ المراد من ثَبَتَ على اليَهُوديَّةِ .

قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } " منهم " خبرٌ مقدم ، و " دُون ذلك " : نَعْتٌ لِمنعُوتٍ محذوف هو المبتدأ ، والتقدير : ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك .

قال الزمخشري{[16950]} : معناه : ومنهم ناسٌ منحطُّون عن الصَّلاح ، ونحوه : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] . بمعنى : مَا منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ معلومٌ . يعني في كونه حذف الموصوفُ وأقيم الجملة الوصفية مقامهُ ، كما قام مقامه الظرفُ الوصفيُّ ، والتفصيل ب " مِنْ " يجوزُ فيه حذفُ الموصوف وإقامةُ الصِّفة مقامه كقولهم : منَّ ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ .

وقال ابنُ عطيَّة{[16951]} : فإن أريدَ بالصَّلاح الإيمانُ ف " دُونَ " بمعنى " غير " يُراد به الكفرة .

قال أبُو حيان{[16952]} : إن أراد أنَّ دُونَ ترادفُ " غيراً " ، فليس بصحيحٍ ، وإن أراد أنَّهُ يلزم أنَّ من كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح ، وذلك إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح وإمَّا أن يُشار به إلى الجماعة ، فإن أشير به إلى الصلاح ؛ فلا بد من حذفِ مضاف ، ليصحَّ المعنى ، تقديره : ومنهم دُون أهل ذلك الصلاح ، ليعتدلَ التقسيم ، وإن أُشير به إلى الجماعة ، أي : ومنهم دون أولئك الصالحين ، فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ ؛ لاعتدال التقسيم بدونه .

وقال أبو البقاء{[16953]} : دُون ذلِكَ ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله :

{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] وفيه نظر من حيث إن " دُونَ " ليس بخبر .

قوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات } أي : عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسناتِ ، وهي : النِّعمُ والخصبُ ، والعافيةُ ، والسَّيِّئاتِ وهي الجدب ، والشَّدائدُ .

قال أهل المعاني : وكُلُّ واحدةٍ من الحسناتِ والسيئاتِ تدعُو إلى الطَّاعة ، أمَّا النعم فللترغيب ، وأمَّا النِّقَمُ فللترهيب .

{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } : لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعة ربِّهم .


[16948]:ذكره البغوي في تفسيره (2/209-210).
[16949]:تقدم.
[16950]:ينظر: تفسير الكشاف 2/173.
[16951]:ينظر: المحرر الوجيز 2/471.
[16952]:ينظر: البحر المحيط 4/413.
[16953]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/288.