وقوله : ثُمّ قَبَضْناهُ إلَيْنا قَبْضا يَسِيرا يقول تعالى ذكره : ثم قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظلّ إلينا قبضا خفيا سريعا بالفيء الذي نأتي به بالعشيّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثُمّ قَبضْناهُ إلَيْنَا قَبْضا يَسِيرا قال : حوى الشمس الظلّ . وقيل : إن الهاء التي في قوله ثُمّ قَبَضْناهُ إلَيْنا عائدة على الظلّ ، وإن معنى الكلام : ثم قبضنا الظلّ إلينا بعد غروب الشمس وذلك أن الشمس إذا غربت غاب الظلّ الممدود ، قالوا : وذلك وقت قبضه .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله يَسِيرا فقال بعضهم : معناه : سريعا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ قَبَضْناهُ إلَيْنا قَبْضا يَسِيرا يقول : سريعا .
وقال آخرون : بل معناه : قبضا خفيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد ثُمّ قَبَضْناهُ إلَيْنا قَبْضا يَسِيرا قال : خفيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج قَبْضا يَسِيرا قال : خفيا ، قال : إن ما بين الشمس والظلّ مثل الخيط ، واليسير الفعيل من اليسر ، وهو السهل الهيّن في كلام العرب . فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك ، يتوجه لما روي عن ابن عباس ومجاهد ، لأن سهولة قبض ذلك قد تكون بسرعة وخفاء . وقيل إنما قيل ثُمّ قَبَضْناهُ إلَيْنا قبْضا يَسِيرا لأن الظلّ بعد غروب الشمس لا يذهب كله دفعة ، ولا يقبل الظلام كله جملة ، وإنما يقبض ذلك الظلّ قبضا خفيا ، شيئا بعد شيء ويعقب كل جزء منه يقبضه ، جزء من الظلام .
{ ثم قبضناه إلينا } أي أزلناه بإيقاع الشمس موقعه لما عبر عن أحداثه بالمد بمعنى التسيير عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الذي هو في معنى الكف . { قبضنا يسيرا } قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس لينتظم بذلك مصالح الكون ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق ، و{ ثم } في الموضعين لتفاضل الأمور أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها ، وقيل { مد الظل } لما بنى السماء بلا نير ، ودحا الأرض تحتها فألقت عليها ظلها ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس عليها دليلا ، أي مسلطا عليه مستتبعا إياه كما يستتبع الدليل المدلول ، أو دليل الطريق من يهديه فإنه يتفاوت بحركتها ويتحول بتحولها ، { ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا } شيئا فشيئا إلى أن تنتهي غاية نقصانه ، أو { قبضا } سهلا عند قيام الساعة يقبض أسبابه من الأجرام المظلة والمظل عليها .
جملة { ثم قبضناه إلينا } إلخ عطف على جملة { مد الظل } ، أو على جملة { جعلنا الشمس عليه دليلاً } لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلاً على الظل .
و { ثم } الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي ، لأن مضمون جملة { قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون { جعلنا الشمس عليه دليلاً } إذ في قبض الظل دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عملٌ ضدٌّ للعمل الأول ، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر .
والقبض : ضد المدّ فهو مستعمل في معنى النقص ، أي نقصنا امتداده ، والقبض هنا استعارة للنقص . وتعديته بقوله : { إلينا } تخييل ، شُبِّه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية ، وحرف ( إلى ) ومجروره تخييل .
وموقع وصف القبض بيسير هنا أنه أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة ، فإن في التريث تسهيلاً لقبضه لأن العمل المجزّأ أيسر على النفوس من المجتمع غالباً ، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفاً ، وهو التدريج ببطء ، على طريقة الكناية ، ليكون صالحاً لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا .
وتعدية القبض ب { إلينا } لأنه ضد المدّ الذي أسند إلى الله في قوله : { مد الظل } . وقد علم من معنى { قبضناه } أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه .
وفي مَدِّ الظل وقبضِه نعمةُ معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس ، ونعمةُ التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظلّ ، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه .
هذا محل العبرة والمنّة اللتين تتناولهما عقول النّاس على اختلاف مداركهم . ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركةُ الأرض حول الشمس وظهورُ الظلمة والضياء ، فليس الظل إلا أثر الظلمة فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة .
ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدماً ، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها ، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجاً في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم ، فذلك مما يشير إليه { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظلّ في هذه الآية مع المنّة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن ، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربّهم يوم البعث مصيراً لا إحالة فيه ولا بعد ، كما يزعمون ، فلما صار قبض الظل مثلاً لمصير الناس إلى الله بالبعث وُصف القبض بيسير تلميحاً إلى قوله : { ذلك حَشْر علينا يسير } [ ق : 44 ] .
وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.