نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ثُمَّ قَبَضۡنَٰهُ إِلَيۡنَا قَبۡضٗا يَسِيرٗا} (46)

ولما كانت إزالته شيئاً فشيئاً بعد مدة كذلك من العظمة بمكان . قال منبهاً على فضل مدخول " ثم " وترتبه متصاعداً في درج الفضل ، فما هنا أفضل مما قبله ، وما قبله أجلّ مما تقدمه ، تشبيهاً لتباعد ما بين المراتب الثلاث في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت : { ثم قبضناه } أي الظل ، والقبض : جمع المنبسط { إلينا } أي إلى الجهة التي نريدها ، لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها ؛ قال الرازي رحمه الله في اللوامع : وهذه الإضافة لأن غاية قصر الظل عند غاية تعالي الشمس ، والعلو موضع الملائكة وجهة السماء التي فيها أرزاق العباد ، ومنها نزول الغيث والغياث ، وإليها ترتفع أيدي الراغبين ، وتشخص أبصار الخائفين - انتهى . { قبضاً يسيراً* } أي هو - مع كونه في القلة بحيث يعسر إدراكه حق الإدراك - سهل علينا ، ولم نزل ننقصه شيئاً فشيئاً حتى اضمحل كله ، أو إلا يسيراً ، ثم مددناه أيضاً بسير الشمس وحجبها ببساط الأرض قليلاً قليلاً ، أولاً فأولاً بالجبال والأبنية والأشجار ، ثم بالروابي والآكام والظراب وما دون ذلك ، حتى تكامل كما كان ، وفي تقديره هكذا من المنافع ما لا يحصى ، ولو قبض لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعاً ، فالحاصل أنه يجعل بواطنهم مظلمة بحجبها عن أنوار المعارف فيصيرون كالماشي في الظلام ، ويكون نفوذهم في الأمور الدنيوية كالماشي بالليل في طرق قد عرفها ودربها بالتكرار ، وحديث علي رضي الله عنه في الروح الذي مضى عند " والطبيات للطيبين " في النور شاهد حسي لهذا المر المعنوي - والله الموفق .