جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ} (176)

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ نَزّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }

أما قوله : ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بالحَقّ فإنه اختلف في المعنيّ ب«ذلك » ، فقال بعضهم : معنِيّ «ذلك » فعلهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار في مخالفتهم أمر الله وكتمانهم الناس ما أنزل الله في كتابه وأمرهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه ، من أجل أن الله تبارك تعالى نزل الكتاب بالحق ، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبره عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنّ الّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيم ، فهم مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون لا يكون منهم غير اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة .

وقال آخرون : معناه ذلك معلوم لهم بأن الله نزل الكتاب بالحق لأنا قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك لهم والكتاب حق . كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم : ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره : فما أصبرهم عليه ، معلوم أنه لهم ، لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين ، وتنزيله حق ، فالخبر عن ذلك عندهم مضمر .

وقال آخرون : معنى ذلك أن الله وصف أهل النار فقال : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ ثم قال : هذا العذاب بكفرهم ، و«هذا » ههنا عندهم هي التي يجوز مكانها «ذلك » كأنه قال : فعلنا ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق فكفروا به ، قال : فيكون «ذلك » إذا كان ذلك معناه نصبا ويكون رفعا بالباء .

وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي : أن الله تعالى ذكره أشار بقوله ذلك إلى جميع ما حواه قوله : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ إلى قوله : ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بالحَقّ من خبره عن أفعال أحبار اليهود وذكره ما أعدّ لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك ، فقال : هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبار من اليهود بكتمانهم الناس ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته مع علمهم به طلبا منهم لعرض من الدنيا خسيس ، وبخلافهم أمري وطاعتي ، وذلك من تركي تطهيرهم وتزكيتهم وتكليمهم ، وإعدادي لهم العذاب الأليم بأني أنزلت كتابي بالحق فكفروا به واختلفوا فيه . فيكون في «ذلك » حينئذٍ وجهان من الإعراب : رفع ونصب ، والرفع بالباء ، والنصب بمعنى : فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق فكفروا به واختلفوا فيه وترك ذكر : «فكفروا به واختلفوا » اجتزاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه .

وأما قوله : وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيد يعني بذلك اليهود والنصارى ، اختلفوا في كتاب الله فكفرت اليهود بما قصّ الله فيه من قصص عيسى ابن مريم وأمه ، وصدقت النصارى ببعض ذلك وكفروا ببعضه ، وكفروا جميعا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم . فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب ، كما قال الله تعالى ذكره : فإنْ آمَنُوا بِمِثْل ما آمَنْتُمْ بِه فَقَد اهْتَدَوْا وَإنْ تَوَلّوْا فانّمَا هُمْ فِي شِقاق . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا في الكِتابِ لَفي شِقاقِ بَعِيد يقول : هم اليهود والنصارى . يقول : هم في عداوة بعيدة . وقد بينت معنى الشقاق فيما مضى .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ} (176)

{ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان . { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } اللام فيه إما للجنس ، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعض . أو للعهد ، والإشارة إما إلى التوراة ، واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها ، أو خلفوا خلال ما أنزل الله تعالى مكانه ، أي حرفوا ما فيها . وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم سحر ، وتقول ، وكلام علمه بشر ، وأساطير الأولين . { لفي شقاق بعيد } لفي خلاف بعيد عن الحق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ} (176)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 176 )

وقوله تعالى : { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } الآية ، المعنى ذلك الأمر أو الأمر ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به ، والإشارة على هذا إلى وجوب النار لهم ، ويحتمل أن يقدر فعلنا ذلك ، ويحتمل أن يقدر وجب ذلك ، ويكون { الكتاب } جملة القرآن على هذه التقديرات : وقيل : إن الإشارة ب { الكتاب } إلى قوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم }( {[1590]} ) [ البقرة : 6 ] ، أي وجبت لهم النار بما قد نزله الله في الكتاب من الخبر به ، والإشارة بذلك على هذا إلى اشترائهم الضلالة بالهدى( {[1591]} ) ، أي ذلك بما سبق لهم في علم الله وورود إخباره به ، و { الحق } معناه الواجب ، ويحتمل أن يراد بالأخبار الحق : أي الصادقة( {[1592]} ) .

و { الذين اختلفوا في الكتاب } ، قال السدي : «هم اليهود والنصارى لأن هؤلاء في شق وهؤلاء في شق » .

قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن الشقاق سميت به المشادّة والمقاتلة ونحوه ، لأن كل واحد يشق الوصل الذي بينه وبين مشاقّه ، وقيل : إن المراد ب { الذين اختلفوا } كفار العرب لقول بعضهم هو سحر ، وبعضهم هو أساطير ، وبعضهم هو مفترى ، إلى غير ذلك ، وشقاق هذه الطوائف إنما هو مع الإسلام وأهله ، و { بعيد } هنا معناه من الحق والاستقامة .


[1590]:- من الآية (7) من سورة (البقرة).
[1591]:- واشتراؤهم ذلك هو الذي أوجب لهم النار، فلا منافاة بينه وبين قوله قبلُ: أي وجبت لهم النار بما قد نزله الله من الكتاب.
[1592]:- توضيح لقوله: الحق.