القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } .
يقول تعالى ذكره : قال ذو القرنين : الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السدّ بينكم وبين هؤلاء القوم ربي ، ووطأه لي ، وقوّاني عليه ، خير من جُعلكم ، والأجرة التي تعرضونها عليّ لبناء ذلك ، وأكثر وأطيب ، ولكن أعينوني منكم بقوّة ، أعينوني بفَعلة وصناع يُحسنون البناء والعمل . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ما مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينوني بقُوَةٍ قال : برجال أجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما وقال ما مكني ، فأدغم إحدى النونين في الأخرى ، وإنما هو ما مكنني فيه . وقوله : أجعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما يقول : أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردما . والردم : حاجز الحائط والسدّ ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ ، يقال منه : قد ردم فلان موضع كذا يَردِمه رَدْما ورُداما ويقال أيضا : رَدّم ثوبه يردمه ، وهو ثوب مُرَدّم : إذا كان كثير الرقاع ومنه قول عنترة :
هَلْ غادَرَ الشّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدّمِ *** أمْ هَلْ عَرَفْتَ الدّارَ بَعْدَ تَوَهّمِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما قال : هو كأشدّ الحجاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رجلاً قال : يا نبيّ الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج ، قال : «انْعَتْهُ لي » ، قال : كأنه البرد المحّبر ، طريقة سوداء ، وطريقة حمراء ، قالَ : «قَدْ رأيَتَهُ » .
{ قال ما مكّني فيه ربي خير } ما جعلني فيه مكينا من المال والملك خير مما تبذلون لي من الخراج ولا حاجة بي إليه . وقرأ ابن كثير " مكنني " على الأصل . { فأعينوني بقوة } أي بقوة فعلة أو بما أتقوى به من الآلات . { أجعل بينكم وبينهم ردماً } حاجزا حصينا وهو أكبر من السد من قولهم ثوب مردم إذا كان رقاعا فوق رقاع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} ذو القرنين: {ما مكني فيه ربي خير}، يقول: ما أعطاني ربي من الخير، خير من جعلكم، يعني: أعطيتكم،
{فأعينوني بقوة}، يعني: بعدد رجال...
{أجعل بينكم وبينهم ردما}، لا يصلون إليكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال ذو القرنين: الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السدّ بينكم وبين هؤلاء القوم ربي، ووطأه لي، وقوّاني عليه، خير من جُعلكم، والأجرة التي تعرضونها عليّ لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينوني منكم بقوّة، أعينوني بفَعلة وصناع يُحسنون البناء والعمل... وقال ما مكني، فأدغم إحدى النونين في الأخرى، وإنما هو ما مكنني فيه. وقوله:"أجعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما" يقول: أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج "ردما". والردم: حاجز الحائط والسدّ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال ما مكني فيه ربي خير} على تأويل، يكون قوله: {ما مكني فيه ربي} من النبوة {خير} لأنه يقول: إنه كان نبيا حين قال {إنا مكنا له في الأرض}. وعلى قول غيره يكون {ما مكني فيه ربي} من الملك والسبب الذي أعطاني، وأبلغ به مغرب الشمس ومطلعها {خير} مما تذكرون...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فأجابَهم إلى سُؤْلِهم، وحقَّق لهم بُغْيَتَهم، ولم يأخذ منهم ما ضَمِنوا له من الجِباية، لمَّا رأى أنَّ من الواجبِ عليه حَقَّ الحمايةِ على حسب المكنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ} ما جَعَلني فيه مَكيناً مِن كثرة المالِ واليَسارِ...
{رَدْمًا} حاجزاً حَصِيناً موثقاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال لهم ذو القرنين: ما بَسَطَه الله لي من القدرة والملك، خيرٌ من خَرْجكم وأموالِكم، ولكن أعينوني بقُوّة الأَبْدانِ... وهذا من تأييد الله تعالى لذي القرنين، فإنه اهتدى في هذه المحاورة إلى الأنفَع الأنزَه، فإنّ القوم، لو جَمعوا له خَرْجاً لم يمنعه يُعِنْهُ منهم أحدٌ، ولَوَكَّلوه إلى البُنْيان، ومعونتُهم بالقوة أَجْمَلُ به، وأمرٌ يطاوِل مدّةَ العملِ، وربما أَرْبَى على المخرج...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولَمّا كان لِمَكِنَتِهِ حالتان: إحداهما ظاهرةٌ، وهي ما شُوهِدَ مِن فِعلِه بعد وقوعه، وباطنةٌ ولا يقع أحدٌ عليها بحَدْسٍ ولا تَوَهُّمٍ، لأنها مِمّا لم يُؤْلَفْ مِثلُه، فلا يقع المُتَوَسِّمُ عليه، قرأ ابنُ كثير بإظهار النون في {مَكَّنَنِي} وغيرُه بالإدغام، إشارةً إليهما. ولَمّا كان النّظرُ إلى ما يَقع المَكِنَةُ فيه أكثرَ، قَدَّمَ ضميرَه فقال: {فيه رَبِّي} أي المُحْسِنُ إليّ بما تَرَوْنَ من الأموالِ والرّجالِ، والفهمِ في إتقان الأمور، والتوصّلِ إلى جميع المُمكِن للمخلوق... {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}... أتَقَوَّى بها في فِعل ذلك، فإنّ أهلَ البلادِ أَخْبَرُ بما يَصْلُحُ في هذا العمل من بلادهم و ما مَعِي إنما هو للقتال وما يكونُ مِن أسبابه، لا لِمِثْلِ هذا {أَجْعَلْ بَيْنَكم} أي بينَ ما تَخْتَصُّون به {وبينَهم رَدْماً}... بعضُه فوقَ بعضٍ، مع التّلاصُق المُتلاحِم المُوجِبِ لأنْ لا يَمِيز بعضُه من بعضٍ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال؛ وتطوع بإقامة السد؛ ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين؛ فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: (فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله {ما مكَّنّي فِيه ربِّي خيرٌ} أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه أو خير من السد الذي سألتموه، أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم...
والردم: البناء المردّم. شبه بالثوب المردّم المؤتلف من رقاع فوق رقاع، أي سُداً مضاعفاً. ولعله بَنى جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتُراب المخلوط ليتعذر نقبه.
ولما كان ذلك يستدعي عملة كثيرين قال لهم: {فأعينوني بقوة} أي بقوّة الأبدان، أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضر عنهم...
ونفهم من الآية أن المَعونة مِن المُمَكَّنِ في الأرض المَالِكِ للشيء يجب أن تكون حِسْبَةً لله، وأنْ تُعِينَ مَعونةً لا تُحْوِجُ الذي تُعِينُه إلى أن تُعِينه كلَّ وقتٍ، بل أَعِنْهُ إعانةً تُغْنيه أن يَحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأنْ تُعَلِّمَه أن يَعمَل بنفسه بدلَ أن تُعطيَه مثلاً مالاً يُنفِقُه في يومه وساعته ثم يعود محتاجاً.. ولَمّا كان ذو القرنين مُمَكَّناً في الأرض، وفي يده الكثيرُ من الخيرات والأموال، فهو ليس في حاجة إلى مالٍ بل إلى الطاقة البشرية العاملة، فقال: {فأعينوني بِقُوَّةٍ}: أي: قُوّةٍ وطاقةٍ بشريّةٍ قويّةٍ مُخْلِصةٍ...
{أَجْعَلْ بَيْنَكم وبينَهم رَدْماً}: ولم يقل: سدّاً؛ لأن السّدّ الأَصَمَّ يَعِيبُه أنه إذا حَصَلَتْ رَجَّةٌ مثلاً في ناحية منه تُرَجُّ الناحيةُ الأخرى؛ لذلك أقام لهم رَدْماً أي: يبني حائطاً من الأمام وآخَرَ من الخلف، ثم يَجعلُ بينَهما رَدْماً من التُّراب ليكون السّدُّ مَرِناً لا يتأثر إذا ما طرأت عليه هَزّةٌ أرضيّةٌ مثلاً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} على بنائه وتحضير الوسائل الممكنة لذلك، من مواد العمل وجهد العمال...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كلمة «ردم» على وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار، إِلاّ أنّها فيما بعد أخذت معنىً واسعاً بحيث شملَ كل سد، بل وشمل حتى ترقيع الملابس. يعتقد بعض المفسّرين أنَّ كلمة «ردم» تقال للسد القوي، ووفقاً لهذا التّفسير فإِنَّ ذا القرنين قد وعدهم بأكثر ممّا كانوا ينتظرونه.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.