التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ} (46)

ثم بين - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا . . }

أى : من عمل عملا صالحا بأن آمن بالله ، وصدق بما جاء به رسله ، فثمرة عمله الصالح لنفسه .

{ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أى : ومن عمل عملا سيئا ، فضرر هذا العمل واقع عليها وحدها { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أى : وليس ربك - أيها الرسول الكريم - بذى ظلم لعباده الذين خلقهم بقدرته ، ورباهم بنعمته .

فقوله { ظلام } صيغة نسب - كثمار وخباز - وليس صيغة مبالغة .

قال بعض العلماء ما ملخصه : " وفى هذه الآية وأمثالها سؤال معروف ، وهو أن لفظة " ظلام " فيها صيغة مبالغة . ومعلوم أن نفى المبالغة لا يستلزم نفى أصل الفعل . فقولك - مثلا - : زيد ليس بقتال للرجال لا ينفى إلا مبالغته فى قتلهم ، فلا ينافى أنه ربما قتل بعض الرجال .

ومعلوم أن المراد بنفى المبالغة - وهى لفظ ظلام - فى هذه الآية وأمثالها المراد به نفى الظلم من أصله .

وقد أجابوا عن هذا الإِشكال بإجابات منها : أن نفى صيغة المبالغة هنا ، قد جاء فى آيات كثيرة ما دل على أن المراد به نفى الظلم من أصله ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً . . . } ومنها : أن المراد بالنفى فى الآية ، نفى نسبة الظلم إليه . لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة ، فتغنى عن ياء النسب . . كقولهم " لبان " أى : ذو لبن ، ونبال أى صاحب نبل . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ} (46)

هذا من مكملات التسلية ومن مناسبات ذكر الأجل المسمى . وفيه معنى التذييل لأن { مَن } في الموضعين مفيدة للعموم سواء اعتبرت شرطية أو موصولة . ووجود الفاء في الموضعين : إمّا لأنهما جوابان للشرط ، وإما لمعاملة الموصول معاملةَ الشرط وهو استعمال كثير . والمعنى : أن الإِمهال إعذار لهم ليتداركوا أمرهم .

وتقديم قريب من هذه الآية في سورة الزمر ، كما تقدم نظير { وما رَبُّكَ بِظَلاممٍ لِلْعَبِيد } لفظاً ومعنى في سورة غافر ( 31 ) .

وحرف ( على ) مؤذن بمؤاخذة وتحمُّل أعباء كما أن اللام في قوله : { فَلِنَفْسِهِ } مؤذن بالعطاء .

والخطاب في { رَبُّكَ } للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه ما تقدم من تعزيز تسليته عند قوله آنفاً : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ } [ فصلت : 45 ] من العدول إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير المخاطب .

والمراد بنفي الظلم عن الله تعالى لعبيده : أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم ، لأن الله لما وضع للناس شرائع وبيّن الحسنات والسيئات ، ووعد وأوعد فقد جعل ذلك قانوناً ، فصار العدول عنه إلى عقاب من ليس بمجرم ظلماً إذ الظلم هو الاعتداء على حق الغير في القوانين المتلقاة من الشرائع الإِلهية أو القوانين الوضعية المستخرجة من العقول الحكيمة . وأما صيغة ( ظلام ) المقتضية المبالغة في الظلم فهي معتبرة قبل دخول النفي على الجملة التي وقعت هي فيها كأنه قيل : ليعذب الله المسيء لكان ظلاّماً له وما هو بظلاّم ، وهذا معنى قول علماء المعاني : إن النفي إذا توجه إلى كلام مقيَّد قد يكون النفي نفياً للقيد وقد يكون القَيد قيداً في النفي ومثلوه بهذه الآية . وهذا استعمال دقيق في الكلام البليغ في نفي الوصف المصوغ بصيغة المبالغة من تمام عدل الله تعالى أن جعل كل درجات الظلم في رتبة الظلم الشديد .