نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ} (46)

ولما تقرر بما مضى أن المطيع ناجٍ ، وتحرر أن العاصي هالك كانت النتيجة من غير تردد : { من عمل صالحاً } كائناً من كان من ذكر أو أنثى { فلنفسه } أي فنفع عمله لها ببركتها به لا يتعداها ، والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص ، فلذا عبر بها ، وكان قياس العبارة في جانب الصلاح . " ومن عمل سيئاً " فأفاد العدول إلى ما عبر به مع ذكر العمل أولاً الذي مبناه العلم إن الصالح تتوقف صحته على نيته ، وأن السيء يؤاخذ به عامله في الجملة من الله أو الناس ولو وقع خطأ فلذا قال : { ومن أساء } أي في عمله { فعليها } أي على نفسه خاصة ليس على غيره منه شيء .

ولما كان لمقصد السورة نظر كبير إلى الرحمة ، كرر سبحانه وصف الربوبية فيها كثيراً ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فما ربك بتارك جزاء أحد أصلا خيراً كان أو شراً : { وما ربك } أي المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق . ولما كان لا يصح أصلاً ولا يتصور أن ينسب إليه سبحانه ظلم ، عبر للدلالة على ذلك بنكرة في سياق النفي دالة على النسبة مقرونة بالجار فقال : { بظلام } أي بذم ظلم { للعبيد * } أي هذا الجنس فلا يتصور أن يقع منه ظلم لأحد منهم أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة ، وعبر ب " عبيد " دون عباد لأنه موضع إشفاق وإعلام بضعف وعدم قدرة على انتصار وعناد يدل على طاعة وعدم حقارة بل إكرام هذا أغلب الاستعمال ، ولعل حكمة التعبير بصيغة المبالغة الإشارة إلى أنه لو ترك الحكم والأخذ للمظلوم من الظالم ، لكان بليغ الظلم من جهة ترك الحكمة التي هي وضع الأشياء في أتقن محالها ثم من جهة وضع الشيء وهو العفو عن المسيء وترك الانتصار للمظلوم في غير موضعه ، ومن جهة التسوية بين المحسن والمسيء ، وذلك أشد في تهديد الظالم لأن الحكيم لا يخالف الحكمة فكيف إذا كانت المخالفة في غاية البعد عنها - هذا مع أن التعبير بها لا يضر لأنها موضوعة أيضاً للنسبة إلى أصل المعنى مطلقاً ولأن نفي مطلق الظلم مصرح به في آيات أخرى .