التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (57)

ثم كرر - سبحانه - نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم الذين استخفوا بتعاليم الإِسلام ، وشعائر دينه فقال - تعالى - :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ . . . }

قال الآلوسي : أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت ، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإِسلام ونافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما . فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ } . . . الآية .

والدين : هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة . فهو عنوان عقل المتدين ، ورائد آماله ، وباعث أعماله . والذي يتخذ دين امرئ هزوا ولعبا ، فقد اتخذ ذلك المتدين بهذا الدين هزوا ولعبا .

وقوله : { هزوا } أي سخرية يقال : فلان هزئ من فلان إذا سخر منه ، واستخف به . وأصله هزءاً ، فأبدلت الهمزة واوا لضم ما قبلها .

وقوله : { لعبا } أي ملهاة وعبثا . وأصله من لعاب الطفل . يقال عن الطفل لعب - بفتح العين - إذا سال لعابه .

والمعنى : يأيها الذين اتصفوا بالإِيمان { لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ } الذي هو سر سعادتكم وعزتكم { هُزُواً وَلَعِباً } أي : اتخذوه مادة لسخريتهم وتهكمهم ، وموضعا لعبثهم ولهوهم .

و { من } في قوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ } بيانية .

أي : مبينة لأولئك الذين يستهزئون بدين الله ويجعلونه موضع عبثهم .

والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى .

وسموا بذلك ؛ لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل هو التوراة والإِنجيل .

وفي وصفهم بذلك هنا ، توبيخ لهم ، حيث إنهم استهزؤوا بالدين الحق ، مع أن كتابهم ينهاهم عن ذلك .

والمراد بالكفار هنا المشركون الذين لا كتاب لهم .

وقرأ الجمهور { والكفار } بالنصب عطفا على { الذين اتخذوا دِينَكُمْ } المبين بقوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } .

وقرأ أبو عمرو والكسائي ( الكفار ) بالجر عطفا على { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } .

وقرأ : { أَوْلِيَآءَ } أي : نصراء وأصفاء . وهو المفعول الثاني لقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ } والآية الكريمة تنهى المؤمنين عن ولاية كل عدو لله - تعالى - ولهم سواء أكان هذا العدو من أهل الكتاب أم من المشركين ؛ لأن الجميع يشتركون في الاستهزاء بتعاليم الإِسلام ، وفي العبث بشعائره .

وقوله : { واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } تذييل قصد به استنهاض همتهم لامتثال أمر الله - تعالى - وإلهاب نفوسهم حتى يتركوا موالاة أعدائهم بسرعة ونشاط .

أي : واتقوا الله في سائر ما أمركم به وما نهاكم عنه ، فلا تضعوا موالاتكم في غير موضعها ، ولا تخالفوا لله أمراً . إن كنتم مؤمنين حقا ، ممتثلين صدقا ، فإن وصفكم بالإِيمان يحتم عليكم الطاعة التامة لله رب العالمين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (57)

استئناف هو تأكيد لبعض مضمون الكلام الّذي قبله ، فإنّ قوله : { يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياءَ } [ المائدة : 51 ] تحذير من موالاة أهل الكتاب ليظهر تميّز المسلمين . وهذه الآية تحذير من موالاة اليهود والمشركين الّذين بالمدينة ، ولا مدخل للنصارى فيها ، إذ لم يكن في المدينة نصارى فيهزأوا بالدّين . وقد عدل عن لفظ اليهود إلى الموصول والصلة وهي { الّذين اتّخذوا دينَكم هزؤاً } الخ لما في الصلة من الإيمان إلى تعليل موجب النّهي .

والدّين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة ، فهو عنوان عقل المتديّن وروائدُ آماله وباعث أعماله ، فالذي يتخذ دين امرىء هزُؤاً فقد اتّخذ ذلك المتديِّن هزؤاً ورمَقه بعين الاحتقار ، إذ عَدّ أعظَمَ شيء عنده سخرية ، فما دون ذلك أوْلى . والّذي يَرمُق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة ، لأنّ شرط الموالاة التماثل في التّفكير ، ولأنّ الاستهزاء والاستخفاف احتقار ، والمودّة تستدعي تعظيم الودود .

وأريد بالكفار في قوله : { والكفار } المشركون ، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفّار ، والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الّذين أظهروا الإسلام نفاقاً مثل رفاعة بن زيد ، وسويد بن الحارث ، فقد كان بعض المسلمين يوادّهما اغتراراً بظاهر حالهما . روي عن ابن عبّاس : أنّ قوماً من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم . وقال الكلبي : كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا : صياح مثل صياح العَير ، وتضاحكوا ، فأنزل الله هذه الآية .

وقرأ الجمهور { والكفّارَ } بالنّصب عطفاً على { الّذين اتخذوا دينَكم } المبيَّن بقوله : { من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب { والكفارِ } بالخفض عطْفاً على { الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، ومآل القراءتين واحد .

وقوله : { واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي احذروه بامتثال ما نهاكم عنه . وذكر هذا الشرط استنهاض للهمّة في الانتهاء ، وإلهابٌ لنفوس المؤمنين ليظهروا أنّهم مؤمنون ، لأنّ شأن المؤمن الامتثال . وليس للشرط مفهوم هنا ، لأنّ الكلام إنشاء ولأنّ خبرَ كان لَقب لا مفهوم له إذ لم يقصد به الموصوف بالتّصديق ، ذلك لأنّ نفي التّقوى لا ينفي الإيمان عند من يُعتدّ به من علماء الإسلام الّذين فهموا مقصد الإسلام في جامعته حقّ الفهم .

وإذا أريد بالموالاة المنهي عنها الموالاة التّامة بمعنى الموافقة في الدّين فالأمر بالتّقوى ، أي الحذر من الوقوع فيما نُهوا عنه معلّق بكونهم مؤمنين بوجه ظاهر . والحاصل أنّ الآية مفسّرة أو مؤوّلة على حسب ما تقدّم في سالفتها { ومن يتوّلهم منكم فإنّه منهم } [ المائدة : 51 ] .