التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ} (73)

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الدليل الرابع على قدرته - تعالى - على البعث والنشور ، فقال - تعالى - : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } .

وقوله : { تُورُونَ } أى : توقدون ، من أورى النار إذا قدحها وأوقدها . ويقال : وَرَى الزندُ يَرِى وَرْيًا ، إذا خرجت ناره - وفعله من باب وعى - وأوراه غيره إذا استخرج النار منه .

وقوله : { لِّلْمُقْوِينَ } مأخوذ من أقوى الرجل إذا دخل فى القواء ، وهو الفضاء الخالى من العمران ، والمراد بهم هنا المسافرون ، لأنهم فى معظم الأحيان يسلكون فى سفرهم الصحارى والفضاء من الأرض .

وخصهم - سبحانه - بالذكر ، لأنهم أكثر من غيرهم انتفاعا بالنار ، وأحوج من غيرهم إليها .

والمراد بشجرة النار : المرخ والعفار ، وهما شجرتان ، يقدح غصن إحدهما بغصن الأخرى فتتولد النار منهما بقدرة الله - تعالى - .

ومن أمثال العرب : لكل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار . أى : وعلا على غيرهما المرخ والعفار لأنهما أكثر الشجر نصيبا فى استخراج النار ، فهو مثل يضرب فى تفضيل الشىء على غيره .

والمعنى : وأخبرونى - أيضا - عن النار التى تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب الأخضر ، أأنتم خلقتم شجرتها ، واخترعتم أصلها ، أم نحن الخالقون لها وحدنا ؟

لا شك أن الجواب الذى لا جواب غيره ، أننا نحن الذين أنشأنا شجرتها لا أنتم .

ونحن الذين جعلناها تذكرة ، تذكر الناس بها فى دار الدنيا إذا أحسوا بشدة حرارتها ، بنار الآخرة التى هى أشد وأبقى ، حتى يقلعوا عن الأقوال والأفعال التى تؤدى بهم إلى نار الآخرة .

ونحن - أيضا - الذين جعلنا هذه النار { مَتَاعاً } أى منفعة { لِّلْمُقْوِينَ } أى للمسافرين ، والذين هم فى حاجة إليها فى شئونهم المختلفة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ} (73)

الجملة بدل اشتمال من جملة { أم نحن المنشئون } [ الواقعة : 72 ] ، أي أنَّ إنشاء النار كان لفوائد وحِكماً منها أن تكون تذكرة للناس يذكرون بها نار جهنم ويوازنون بين إحراقها وإحراق جهنم التي يعلمون أنها أشد من نارهم .

والمتاع : ما يُتمتع ، أي ينتفع به زماناً ، وتقدم في قوله : { قل متاع الدنيا قليل } في سورة النساء ( 77 ) .

والمُقوِي : الداخل في القَواء ( بفتح القاف والمد ) وهي القفر ، ويطلق المُقوي على الجائع لأن جوفه أقوت ، أي خلقت من الطعام إذ كلا الفعلين مشتق من القَوى وهو الخلاء . وفراغ البطن : قواء وقوى . فإيثار هذا الوصف في هذه الآية ليجمع المعنيين فإن النار متاع للمسافرين يستضيئون بها في مناخهم ويصطلون بها في البَرد ويراها السائر ليلاً في القَفر فيهتدي إلى مكان النُّزَّل فيأوي إليهم ، ومتاع للجائعين يطبخون بها طعامهم في الحضر والسفر ، وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال . واختير هذان الوصفان لأن احتياج أصحابهما إلى النار أشد من احتياج غيرهما .