التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٍۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ} (73)

قبل أن تذكر السورة القسم القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، تتحدث عن ولاية الكفار بعضهم لبعض فتقول : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .

أى : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض في النصرة والتعاون على قتالاكم وإيذائكم - أيها المؤمنون - فهم وإن اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم يتفقون على عداوتكم وإنزال الأضرار بكم .

وقوله : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } تحذير شديد للمؤمنين عن مخالفة أمره - سبحانه - .

أى : إلا تفعلوا - أيها المؤمنون - ما أمرتكم به من التناصر والتواصل وتولى بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة كبيرة في الأرض ، ومفسدة شديدة فيها ، لأنكم إذا لم تصيروا يداً واحدة على الشرك ، يضعف شأنكم ، وتذهب ريحكم ، وتسفك دماؤكم ويتطاول أعداؤكم عليكم ، وتصيرون عاجزين عن الدفاع عن دينكم وعرضكم . . . وبذلك تعم الفتنة ، وينتشر الفساد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٍۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ} (73)

هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة ، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس ، كما تقول لمن تريد أن يستضلع{[5490]} : عدوك مجتهد ، أي فاجتهد أنت ، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال : أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر ، وذلك في صدر الإسلام ، وذلك أيضاً مذكور مستوعب في تفسير قوله عز وجل : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً }{[5491]} .

والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر ، وقوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [ النساء : 97 ] إنما هي فيمن قتل مع الكفار ، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى ناراهما » الحديث{[5492]} على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصاً يقول من غلب كنت معه ، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي ، والضمير في قوله { إلا تفعلوه } قيل هو عائد على الموارثة والتزامها .

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة ، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي ، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول ، ويظهر أيضاً عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } [ الأنفال : 72 ] وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها ، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين ، ويجوز أن يعود الضمير مجملاً على جميع ما ذكر ، والفتنة المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر ، و «الفساد الكبير » ظهور الشرك ، وقرأ جمهور الناس «كبير » بالباء المنقوطة واحدة ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي بالثاء منقوطة مثلثة وروى أبو حاتم المدني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ «وفساد عريض » ، وقرأت فرقة «والذين كفروا بعضهم أولى ببعض » .


[5490]:- استضلع وتضلّع بمعنى واحد، إذ يراد بهما: امتلأ من العلوم وشبع.
[5491]:- من الآية (97) من سورة (النساء).
[5492]:- أخرج أبو داود في سننه عن جابر بن عبد الله في كتاب الجهاد قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: لا تراءى نارهما). والمعنى كما جاء في "النهاية" لابن الأثير: يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموقع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم، وإنما كره مُجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان، وحثّ المسلمين على الهجرة، والترائي: تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا، وتراءى لي الشيء: أي ظهر حتى رأيته، وإسناد الترائي إلى النارين مجاز، من قولهم: داري تنظر إلى دار فلان، أي تقابلها، يقول: ناراهما مختلفان، هذه تدعو إلى الله، وهذه تدعو إلى الشيطان، فكيف يتّفقان؟ والأصل في تراءى: تتراءى، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٍۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ} (73)

هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله : { إن الذين آمنوا وهاجروا } [ الأنفال : 72 ] وما عطف عليه . والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأنّ بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي : وهو أنّهم ليسوا بأولياء للمسلمين ، لأنّ الإخبار عن ولاية بعضهم بعضاً ليس صريحة ممّا يهمّ المسلمين لولا أنّ القصد النهي عن موالاة المسلمين إيّاهم ، وبقرينة قوله : { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي : إنْ لا تفعلوا قطع الولاية معهم ، فضمير تفعلوه عائِد إلى ما في قوله : { بعضهم أولياء بعض } بتأويل : المذكور ، لظهور أنْ ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضاً ، لولا أنّ المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إيّاهم .

والفتنة اختلال أحوال الناس ، وقد مضى القول فيها عند قوله : { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [ البقرة : 102 ] وقوله { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 191 ] ، وقد تقدّم القول فيها آنفاً في هذه السورة .

والفتنة تحصل من مخالطَة المسلمين مع المشركين ، لأنّ الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام ، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودّة ومصاهرة ومخالطة ، وقد كان إسلام من أسلم مثيراً لحنق المشركين عليه ، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزّتهم ، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم ، فيحِنّوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر . فكان إيجاب مقاطعتهم ؛ لقصد قطع نفوسهم عن تذكّر تلك الصلات ، وإنسائهم تلك الأحوال ، بحيث لا يشاهدون إلاّ حال جماعة المسلمين ، ولا يشتغلوا إلاّ بما يقوّيها ، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرّغ بال من تحسّر أو تعطّف على المشركين ، فإنّ الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض ، فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي ، فلذا كان هذا حسماً لوسائل الفتنة .

والتعريف في الأرض } للعهد والمراد أرض المسلمين .

و« الفساد » ضدّ الصلاح ، وقد مضى عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .

والكبير حقيقته العظيم الجسم . وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] .

والمراد بالفساد هنا : ضد صلاح اجتماع الكلمة ، فإنّ المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم ، ولأنّه قد يحدث بينهم الاختلاف من جرّاء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين ، ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر أو النفاق ، وذلك يفضي إلى تفرّق جماعتهم ، وهذا فساد كبير ، ولأنّ المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية ، وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافاً واحداً ، وتجنّب ما يضادها ، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة . وذلك فساد كبير .