ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بما يدل على نفاذ مشيئته وإرادته فقال : { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } .
أى : فمن شاء أن يذكر القرآن وما فيه من مواعظ ذكر ذلك ، ولكن هذا التذكر والاعتبار والاتعاظ . لا يتم بمجرد مشيئتكم ، وإنما يتم فى حال مشيئة الله - تعالى - وإرادته ، فهو - سبحانه - أهل التقوى ، أى : هو الحقيق بأن يتقى ويخاف عذابه ، وهو - عز وجل - " أهل المغفرة " أى : هو - وحده - صاحب المغفرة لذنوب عباده ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
فالمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن هذا التذكر لمواعظ القرآن ، لا يتم إلا بعد إرادة الله - تعالى - ومشيئة ، لأنه هو الخالق لكل شئ ، وبيان أن مشيئة العباد لا أثر لها إلا إذا كانت موافقة لمشيئة الله ، التى لا يعلمها أحد سواه .
أخرج الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجة عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } فقال : قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معى إله ، فمن اتقانى فلم يجعل معى إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " .
ثم أخبر تعالى أن ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى وليس يكون شيء إلاّ بها ، وقرأ نافع وأهل المدينة وسلام ويعقوب : «تذكرون » بالتاء من فوق ، وقرأ أبو جعفر وعاصم وأبو عمرو والأعمش وطلحة وابن كثير وعيسى والأعرج : «يذكرون » بالياء من تحت ، وروي عن أبي جعفر بالتاء من فوق وشد الذال كأنه تتذكرون فأدغم ، وقوله تعالى : { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } خبر جزم معناه : أن الله تعالى أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى ونقمه التي لا تدفع لأن يتقى ويطاع ويحذر عصيانه وخلاف أمره ، وأنه بفضله وكرمه أهل أن يغفر لعباده إذا اتقوه ، وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال : «يقول ربكم جلت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله غيري ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له ، »{[11458]} وقال قتادة : معنى الآية هو أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب .
{ وما تذكرون إلا أن يشاء الله }
وجملة { وما تذْكُرون إلاّ أن يشاء الله } معترضة في آخر الكلام لإِفادة تعلمهم بهذه الحقيقة ، والواو اعتراضية .
والمعنى : أن تذكُّر من شَاءوا أن يتذكروا لا يقع إلاّ مشروطاً بمشيئة الله أن يتذكروا ، وقد تكرر هذا في القرآن تكرراً ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله : { وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله } [ التكوير : 29 ] وقال هنا { كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره } فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاءِ في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري ، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة ، وهما عبارتان متقاربتان ، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر ، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد .
وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية ، وبالخِذلان إذا تعلقت بتركه في ضلاله الذي أوْبَقَتْهُ فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإِعراض عن شرائع الله ودعوة رسله ، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوْحَال الضلال وبإنارَة سبيل الخير لبصيرته سميت لُطفاً مثل تعلقها بإيمان عُمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد ، وهذا تأويل قوله تعالى : { فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يُرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّدُ في السماء } [ الأنعام : 125 ] .
هذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله ، والأدلةِ التي اقتضت المؤاخذة على الضلال ، وتأويلُها الأكبرُ في قوله تعالى : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 78 ، 79 ] وَلله في خلقه سرّ جَعل بينهم وبين كنهه حجاباً ، ورَمَزَ إليه بالوعد والوعيد ثواباً وعقاباً .
وقرأ نافع ويعقوب { وما تذكُرون } بمثناة فوقية على الالتفات ، وقرأه الجمهور بتحتية على الغيبة ، فالمعنى أنهم يغلب عليهم الاستمرار على عدم الذكرى بهذه التذكرة إلاّ أن يشاء الله التوفيق لهم ويلطف بهم فيخلق انقلاباً في سجيّة من يشاء توفيقه واللطفَ به . وقد شاء الله ذلك فيمن آمنوا قبل نزول هذه الآية ومَن آمنوا بعد نزولها .
{ هو أهل التقوى وأهل المغفرة }
جملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة { فمن شاء ذكره } تقويةً للتعريض بالترغيب في التذكر والتذكر يفضي إلى التقوى .
فالمعنى : فعليكم بالتذكر واتقوا الله تعالى لأن الله هو أهل للتقوى .
وتعريف جزأي الجملة في قوله : { هو أهل التقوى } يفيد قصر مستحق اتقاء العِبادِ إياه على الله تعالى وأن غيره لا يستحق أن يُتَّقى . ويتجنب غضبه كما قال : { والله أحق أن تخشاه } [ الأحزاب : 37 ] .
فإما أن يكون القصر قصراً إضافياً للرد على المشركين الذين يخشون غضب الأصنام ويطلبون رضاها أو يكون قصراً ادعائياً لتخصيصه تعالى بالتقوى الكاملة الحق وإلاّ فإن بعض التقوَى مأمور بها كتقوى حقوق ذوي الأرحام في قوله تعالى : { واتقوا الله الذي تسَّاءَلون به والأرحامَ } [ النساء : 1 ] وقد يقال : إن ما ورد الأمر به من التقوى في الشريعة راجع إلى تقوى الله ، وهذا من متممات القصر الادعائي .
وأصله : أنه ملازم الشيء وخاصته وقرابته وزوجُه ومنه { فأسرِ بأهلك } [ هود : 81 ] .
ومعنى { أهل المغفرة } : أن المغفرة من خصائصه وأنه حقيق بأن يَغفر لفرط رحمته وسعة كرمه وإحسامه ومنه بيت « الكشاف » في سورة المؤمنين :
أَلا يَا ارْحَمُونِي يَا إله مُحَمَّد *** فإن لم أكُنْ أهْلاً فأنت له أهل
وهذا تعريض بالتحريض للمشركين أن يقلعوا عن كفرهم بأن الله يغفر لهم ما أسلفوه قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] ، وبالتحريض للعصاة أن يقلعوا عن الذنوب قال تعالى { قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنَطُوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ] .
روى الترمذي عن سهيل عن ثابت عن أنس بن مالك « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : قال الله تعالى : « أنا أهل أن أُتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له » قال الترمذي : حسن غريب ، وسهيل ليس بالقوي ، وقد انفرد بهذا الحديث عن ثابت .
وأعيدت كلمة { أهل } في الجملة المعطوفة دون أن يقال : والمغفرة ، للإِشارة إلى اختلاف المعنى بين أهل الأول وأهل الثاني على طريقة إعادة فعل وأطيعوا في قوله تعالى : { يا أيّها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [ النساء : 59 ] .