ثم أرشد صالح - عليه السلام - إلى المعجزة الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه فقال :
{ وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً . . } أى : معجزة ، واضحة دالة على صدقى وفى إضافة كغيرها من النوق التى تستعمل فى الركوب والنحر وغيرهما . لأن الله - تعالى - قد جعلها معجزة لنبيه صالح - عليه السلام - ولم يجعلها كغيرها .
وقد ذكر بعض المفسرين من صفات هذه الناقة وخصائصها . ما لا يؤيده نقل صحيح ، لذا أضربنا عن كل ذلك صفحا ، ونكتفى بأن تقول : بأنها كانت ناقة ذات صفات خاصة مميزة ، تجعل قوم صالح يعلمون عن طريق هذا التمييز لها عن غيرها أنها معجزة دالة على صدق نبيهم - عليه السلام - فيما يدعوهم إليه .
وقوله : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } أمر لهم بعدم التعرض لها بسوء وتحذير لهم من نتائج مخالفة أمره .
أى : اتركوا الناقة حرة طليقة تأكل فى أرض الله الواسعة ؛ ومن رزقه الذى تكفل به لكل دابة ، واحذورا أن تمسوها بشئ من السوء مهما كان قليلا ، فإنكم لو فعلتم ذلك عرضتم أنفسكم لعذاب الله العاجل القريب .
والتعبير بقوله { فَيَأْخُذَكُمْ } بفاء التعقيب وبلفظ الأخذ ، يفيد سرعة الأخذ وشدته ، لأن أخذه - سبحانه - أليم شديد .
وتقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة " الأعراف " {[14717]} بما أغنى عن إعادته ها هنا ، وبالله التوفيق .
هذا جواب عن قولهم : { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } [ هود : 62 ] فأتاهم بمعجزة تزيل الشك .
وإعادة { ويا قوم } لمثل الغرض المتقدّم في قوله في قصة نوح { ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم } [ هود : 30 ] .
والإشارة بهذه إلى الناقة حين شاهدوا انفلاق الصّخرة عنها .
وإضافة النّاقة إلى اسم الجلالة لأنّها خُلقت بقدرة الله الخارقة للعادة .
و { آية } و { لكم } حالان من ناقة ، وتقدّم نظير هذه الحال في سورة الأعراف . وستجيء قصة في إعرابها عند قوله تعالى : { وهذا بعلي شيخاً } في هذه السورة : [ 72 ] .
وأوصاهم بتجنب الاعتداء عليها لتوقّعه أنّهم يتَصَدّون لها من تصلبهم في عنادهم . وقد تقدّم عقرها في سورة الأعراف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويا قوم هذه ناقة الله لكم ءاية} يعني عبرة، {فذروها تأكل في أرض الله} لا تكلفكم مؤنة، ولا علفا، {ولا تمسوها بسوء}، يقول: ولا تصيبوها بعقر، {فيأخذكم} في الدنيا، {عذاب قريب} منكم لا تمهلون حتى تعذبوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود إذ قالوا له "وَإنّنَا لَفِي شَكَ مِمّا تَدْعُونَا إلَيْهِ مُرِيبٍ "وسألوه الآية على ما دعاهم إليه: "يا قَوْمِ هَذِهِ ناقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً" يقول: حجة وعلامة ودلالة على حقيقة ما أدعوكم إليه، "فَذَرُوها تَأْكُلُ فِي أرْضِ اللّهِ" فليس عليكم رزقها ولا مُؤْنتها. "وَلا تَمَسّوها بسُوءٍ" يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها بعقر، "فَيأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ" يقول: فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله غير بعيد فيهلككم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) قال لهم هذا حين سألوا منه الآية، فقال: (هذه ناقة الله لكم آية) أي لكم الآية التي سألتموها من الرسالة. وقوله تعالى: (هَذِهِ نَاقَةُ) أضافها إليه لخصوصية كانت فيها نحن لا نعرفها ليست تلك الخصوصية في غيرها من النوق لما جعلها آية لرسالته ونبوته خارجة عما عاينوا من النوق وشاهدوها، وهكذا كانت آيات الرسل؛ كانت خارجة عن وسع البشر وطوقهم ليعلم أنها سماوية، ثم لا نعرف لها خصوصية سوى عظم جسمها وغلظ بدنها حين قسم الشرب بينهم وبينها حتى جعل يوما لها ويوما لهم بقوله: (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) [الشعراء: 155] ولم يقسم مراعيها بينهم وبينها بقوله (فذروها تأكل من أرض الله). وأما ما قاله بعض الناس أنها خرجت من صخرة، وكذا، وأنها كانت تحلب كل يوم كذا، وأشياء أخرى ذكروها، فإنا لا نعرف ذلك، ولا نقطع القول فيه إنه كان كذلك سوى أنا نعرف أن لها خصوصية ليست تلك الخصوصية لغيرها من النوق. ولو كانت لنا حاجة إلى تلك الخصوصية لبينها لنا. وأصله ما ذكرنا أنه إذا أضيفت جزئية الأشياء إلى الله فهي على تعظيم تلك الجزئيات المضافة إليه، وإذا أضيفت كلية الأشياء إليه فهي على إرادة التعظيم لله والتبجيل له نحو قوله: (له ملك السموات والأرض...) [البقرة: 107...]
(ولا تمسوها بسوء) نهاهم أن يمسوها بسوء، ولم يبين ما ذلك السوء، فيحتمل أن يكون ذلك شيئا عرفوه، ونهاهم عنه. وقال بعض أهل التأويل: (ولا تمسوها بسوء) أي لا تعقروها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عَذَابٌ قَرِيبٌ} عاجل لا يستأخر عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا تمسوها بسوء} عام في العقر وغيره، وقوله: {فيأخذكم عذاب قريب} هذا بوحي من الله إليه أن قومك إذا عقروا الناقة جاءهم عذاب قريب المدة من وقت المعصية...
اعلم أن العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام أن يبتدئ بالدعوة إلى عبادة الله ثم يتبعه بدعوى النبوة لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة وأمر صالح عليه السلام هكذا كان...
ثم قال: {فذروها تأكل في أرض الله} والمراد أنه عليه السلام رفع عن القوم مؤنتها، فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرهم، لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر، فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه، بل يسعى في إخفاءها وإبطالها بأقصى الإمكان، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها، فلهذا احتاط وقال: {ولا تمسوها بسوء} وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب، وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
قوله "ناقة الله "إضافة تشريف كبيت الله وعبد الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبرهم أن معصية الله خسران، ذكرهم أمر الناقة التي أخرجها سبحانه لهم من الأرض شاهداً على كونهم مساوين للأوثان في كونهم منها مفضلين عليها بالحياة محذراً لهم من شديد انتقامه فقال: {ويا قوم هذه} إشارة إلى حاضر، وذلك بعد أن أخرجها لهم سبحانه عندما دعاه صالح عليه السلام؛ وبين الإشارة بقوله: {ناقة الله} أي الملك الأعلى، ثم بني حالاً من {آية} مقدماً عليها لئلا يكون صفة لها فقال: {لكم} أي خاصة لنظركم إياها عندما خرجت ولكل من سمع بها بعدكم، وليس الخبر كالمعاينة، أشير إليها حال كونها {آية} بكون الله تعالى أخرجها لكم من صخرة، وهي عشراء على حسب ما اقترحتم وأنتم تشاهدون وبكونها تنفرد بشرب يوم، وتنفردون كلكم بشرب يوم وتنفرد برعي يوم، وتنفرد جميع الحيوانات من دوابكم ووحوش بلادكم برعي يوم إلى غير ذلك مما أنتم له مبصرون وبه عارفون {فذروها} أي اتركوها على أيّ حالة كان ترككم لها {تأكل} أي مما أرادت {في أرض الله} أي الملك الذي له الأمر كله التي خلقها منها {ولا تمسوها بسوء} والأكل: مضغ يقع عند بلع؛ والمس مطلق الإصابة ويكون بين الحيوان وغيره، واللمس أخص منه لما فيه من الإدراك {فيأخذكم} أي فيتسبب عن ذلك أن يأخذكم {عذاب قريب} أي من زمن إصابتكم لها بالسوء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة. ولكن في إضافتها لله: (هذه ناقة الله) وفي تخصيصها لهم: (لكم آية) ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة، يعلمون بها أنها آية لهم من الله...
(هذه ناقة الله لكم آية. فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء).. وإلا فيعالجكم العذاب. يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة. ولفظ قريب: (فيأخذكم عذاب قريب).. يأخذكم أخذا. وهي حركة أشد من المس أو الوقوع...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
لما تخوفوا من استفحال دعوته وغلبتها، أخذوا يتحدونه ويطالبونه مرة بعد أخرى، بآية محسوسة تراها العين، تكون دالة على صدق رسالته، فكانت تلك الآية التي طلبوها، هي {ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13]، وإنما أضيفت إلى اسم الله لكونها جاءت على خلاف ما هو معتاد في جنسها، لا شكلا، ولا حجما، ولا غذاء، فأمرهم صالح بتركها تأكل في أرض الله، وبأن يكون لها وحدها شرب يوم معلوم، كما يكون لمواشيهم شرب اليوم الذي يليه، بحيث تقاسم {ناقة الله} مواشيهم مياه الشرب مناصفة، يوم لها ويوم لهم. غير أن كبار القوم وأصحاب المصالح، لم يصبروا طويلا على امتثال أمر صالح، ولعلهم وجدوا في هذا الأمر حدا لاحتكارهم، وقيدا لاستغلالهم واستثمارهم، ولعل ألبان {ناقة صالح} أصبحت عونا لصالح على الدعوة إلى الله، وغذاء للفقراء المستضعفين الذين آمنوا بالله، فلم يسع كبار قوم صالح وكفارهم إلا أن يحرضوا على قتل {ناقة الله}، تحديا صارخا لصالح الذي انتشرت دعوته إلى الله {وقالوا يا صالح إيتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} [الأعراف: 77]. وحدد صالح لمصرعهم بعد عقرهم للناقة ثلاثة أيام، كل يوم منها يرون فيه لونا من ألوان العذاب، قبل أن يهلكوا ويبيدوا بالمرة، وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله تعالى هنا بإيجاز وإعجاز: {ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية، فذروها تأكل في أرض الله، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب}، فعقروها فقال: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا، ومن خزي يومئذ، إن ربك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها، ألا إن ثمودا كفروا ربهم، ألا بعدا لثمود}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}، ولم يذكر القرآن لنا التفاصيل عن طبيعة المعجزة في هذه الناقة، مما جعل الروايات تختلف في تفسير ذلك اختلافاً يقترب بها من الأساطير، فلتراجع في مظانّها من كتب التفسير، لأننا لا نجد كبير فائدة في تناولها ما دام القرآن لا يريد أن يدخل في تفاصيلها، لأن دور القصص القرآني هو إعطاء الدرس من مجمل القصة ولا يعطي للفكرة امتدادها الزمني، مما يجعل القصة ترتبط بالجوانب العامة، لا بالجوانب الخاصة...
{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّه} فلا يُتَعَرَّضُ لها في أي مكان أرادت أن ترعى من أرض الله، لأن الله جعل لها الحرية في ذلك بما أوحاه إليّ، {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} لأن لها عند الله حرمةً كبيرةً، لكونها نموذج الآية المتحركة التي يرى الناس من خلال خصائصها الدليل على عظمة الله من جهة، وصدق الرسول من جهة أخرى، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} لأن معنى قتلها، هو إعلان الحرب على الله، والتمرّد على إنذاره، ومواجهة الموقف الإلهي بالتحدي الذي يسخر من وعيد الرسول لهم بعذاب الله، لإبطال مصداقية الرسالة في حركة المجتمع، وتفرقة المؤمنين من حوله، فضلاً عن غير المؤمنين...