ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك لونا آخر من ألوان تبجحهم ، وأقوالهم الباطلة ، وردت عليها بأسلوب منطقي حكيم فقال - تعالى - : { أَفَرَأَيْتَ الذي . . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما أخرجه البخارى ومسلم عن خباب بن الأرب قال : جئت العاص بن وائل السهمى أتقاضاه حقا لى عنده ، فقال لى : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقلت له : لا ، والله لا أكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حيا ولا ميتاولا إذا بعثت ، فقال العاص : فإذا بعثت جئتنى ولى هناك مال وولد فأعطيك حقك ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات .
وفى رواية أن رجالا من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - أتوا العاص يتقاضون دينا لهم عليه فقال : ألستم تزعمون أن فى الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات ؟ قالوا : بلى . قال : " موعدكم الآخرة والله لأوتين مالا وولدا " .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَفَرَأَيْتَ . . } للتعجيب من شأن هذا الكافر الجهول والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام ، والتقدير : أنظرت أيها العاقل فرأيت هذا الجاحد الجهول الذى كفر بآياتنا الدالة على وحدانيتنا ، وعلى أن البعث حق ، وعلى أن ما جاء به رسولنا - صلى الله عليه وسلم - حق وصدق . . . .
ولم يكتف بهذا الكفر ، بل قال بكل تبجح ، وإصرار على الباطل ، واستهزاء بالدين الحق : والله { لأُوتَيَنَّ } فى الآخرة { مَالاً وَوَلَداً } كما هو حالى فى الدنيا .
فأنت ترى أن هذالكفار لم يكتف بكفره ، بل أضاف إليه القول الباطل المصحوب بالقسم الكاذب ، وبالتهكم بالدين الحق .
وقرأ حمزة والكسائى : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوُلْداً } - بضم الواو الثانية وسكون اللام - ، وقرأ الباقون بفتحهما . قالوا : والقراءتان بمعنى واحد كالعرب والعرُب . ويرى بعضهم الولد بالفتح للمفرد ، والولد - بضم الواو وسكون اللام - للجمع .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينًا ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه . فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد{[19109]} [ فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ]{[19110]} حتى تموت ثم تبعث . قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد ، فأعطيتك ، فأنزل الله : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } إلى قوله : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } .
أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما ، من غير وجه ، عن الأعمش به{[19111]} ، وفي لفظ البخاري : كنت قينًا بمكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفًا ، فجئت أتقاضاه . فذكر الحديث وقال : { أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } قال : موثقًا .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق قال : قال خَبَّاب بن الأرت ، كنت قينًا بمكة ، فكنت أعمل للعاص بن وائل ، قال : فاجتمعت لي عليه دراهم ، فجئت لأتقاضاه{[19112]} ، فقال لي : لا أقضيك{[19113]} حتى تكفر بمحمد . فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث . قال : فإذا بعثت كان لي مال وولد . قال : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } إلى قوله : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا }{[19114]} .
وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس : إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين ، فأتوه يتقاضونه ، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة وحريرًا ، ومن كل الثمرات ؟ قالوا : بلى . قال : فإن موعدكم{[19115]} الآخرة ، فوالله لأوتين مالا وولدًا ، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به . فضرب الله مثله في القرآن فقال{[19116]} { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } إلى قوله : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا }
وهكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهم : إنها نزلت في العاص بن وائل .
وقوله : { لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } قرأ بعضهم بفتح " الواو " من " ولدا " وقرأ آخرون بضمها ، وهو بمعناه ، قال رؤبة :
الحمْدُ للهِ العزيز فَرْدًا *** لَمْ يتخذ مِنْ وُلْد شيء وُلْدا{[19117]}
وَلَقَد رأيتُ معَاشرًا *** قد تمرُوا مالا وَولْدا{[19118]}
فَلَيت فُلانًا كانَ في بَطْن أمه *** وَليتَ فُلانًا كان وُلْد حِمَار{[19119]}
وقيل : إن " الوُلْد " بالضم جمع ، " والوَلَد " بالفتح مفرد ، وهي لغة قيس ، والله أعلم .
تفريع على قوله { ويقول الإنسان أإذا ما متّ لسوفَ أخرج حياً } [ مريم : 66 ] وما اتصل به من الاعتراض والتفريعات . والمناسبة : أن قائل هذا الكلام كان في غرور مثل الغرور الذي كان فيه أصحابه . وهو غرور إحالة البعث .
والآية تشير إلى قصة خبّاب بن الأرتّ مع العاصي بن وائل السهمي . ففي « الصحيح » : أن خبّاباً كان يصنع السيوف في مكة ، فعمل للعاصي بن وائل سَيفاً وكان ثمنه دَيناً على العاصي ، وكان خبّاب قد أسلم ، فجاء خبّاب يتقاضى دَينه من العاصي فقال له العاصي بن وائل : لا أقضيكه حتى تكفر بمحمّد ، فقال خبّاب ( وقد غضب ) : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثمّ يبعثك . قال العاصي : أو مبعوثٌ أنا بعد الموت ؟ قال : نعم . قال ( العاصي متهكماً ) : إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دَينَك » . فنزلت هذه الآية في ذلك . فالعاصي بن وائل هو المراد بالذي كفر بآياتنا .
والاستفهام في { أفرأيت } مستعمل في التعجيب من كفر هذا الكافر .
والرؤية مستعارة للعلم بقصته العجيبة . نُزلت القصة منزلة الشيء المشاهد بالبصر لأنه من أقوى طرق العلم . وعبر عنه بالموصول لما في الصلة من منشأ العجب ولا سيما قوله { لأُوتين مالاً وولداً } .
والمقصود من الاستفهام لفت الذهن إلى معرفة هذه القصة أو إلى تذكرها إن كان عالماً بها .
والخطاب لكل من يصلح للخطاب فلم يُرد به معيّن . ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم
والآيات : القرآن ، أي كفر بما أنزل إليه من الآيات وكذب بها . ومن جملتها آيات البعث .
والوَلَد : اسم جَمْع لوَلَد المفرد ، وكذلك قرأه الجمهور ، وقرأ حمزة والكسائي في هذه السورة في الألفاظ الأربعة « ووُلْد » بضمّ الواو وسكون اللام فهو جمع ولد ، كأسد وأسد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.