ثم ضرب - سبحانه - مثلا للمؤمنين فقال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ } وهى آسية ابنة مزاحم ، التى لم يمنعها ظلام الكفر الذى كانت تعيش فيه فى بيت فرعون ، ولم يشغلها ما كانت فيه من متاع الحياة الدنيا وزينتها . . . عن أن تطلب الحق ، وتعرض عن الباطل ، وأن تكفر بكل ما يدعيه زوجها من كذب وطغيان .
قال الجمل : آمنت بموسى - عليه السلام - لما غلب السحرة ، وتبين لها أنه على الحق . ولم تضرها الوصلة بالكافر ، وهى الزوجية التى هى من أعظم الوصل ولا نفعه إيمانها ، لأن كل امرىء بما كسب رهين . . .
وروى الشيخان عن أبى موسى الأشعرى " أنه قال : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : مريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - وآسية بنت مزاحم ، امرأة فرعون " .
قيل : إنها إسرائيلية وأنها عمة موسى . وقيل إنها ابنة عم فرعون . . . ومن فضائلها أنها اختارت القتل على الملك ، وعذاب الدنيا على النعيم الذى كانت فيه - بعد أن خالط الإيمان قلبها .
أى : وجعل الله - تعالى - حال امرأة فرعون ، مثلا للمؤمنين ، حيث آمنت بالحق بعد أن تبين لها ، دون أن يصرفها عن ذلك أى صارف ، فكان ما فعلته فى أسمى درجات الإخلاص وصدق اليقين .
والظرف فى قوله : { إِذْ قَالَتْ . . } متعلق بمحذوف ، أو بقوله : { مَثَلاً } .
أى : وضرب الله - تعالى - مثلا للذين آمنوا ، حال امرأة فرعون وقت أن قالت { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة } أى : ابن لى بيتا فى مستقر رحمتك ، أو فى جنتك التى لا يستطيع أحد التصرف فيها إلا بإذنك .
وقوله : { فِي الجنة } بدل أو عطف بيان لقوله - تعالى - { عِندَكَ } وقدم عندك ، للإشعار بأن محبتها للقرب من رحمته - تعالى - أهم من أى شىء آخر .
{ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أى : ونجنى من طغيان فرعون ، ومن عمله الذى بلغ النهاية فى السوء والقبح .
{ وَنَجِّنِي } - أيضا - من القوم الظالمين ، وهم أتباع فرعون وحاشيته وملؤه ، وشيعته . .
وفى هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب ، فهى تسأل الله - تعالى - أن يعوضها عن دار فرعون ، دارا فى أعلى درجات الجنة .
وهذا الدعاء يشعر بأن فرعون وقومه ، قد صدوها عن الإيمان ، وهددوها بأنها إن آمنت . . حرموها من قصر فرعون ، وزينته وفخامته .
كما أنها سألت ربها - عز وجل - أن ينجيها من ذات فرعون ، ومن علمه السىء ، ومن كل من حام حول فرعون ، واتبعه فى طغيانه وكفره .
وهذا مَثَلٌ ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [ آل عمران : 28 ] .
قال : قتادة كان فرعون أعتى أهل الأرض وأبعده فوالله ما ضر امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حَكَمٌ عدل ، لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه .
وقال ابن جرير : حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُليّ ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي{[29083]} عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تُعَذَّب في الشمس ، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة .
ثم رواه عن محمد بن عبيد المحاربي عن أسباط بن محمد ، عن سليمان التيمي ، به{[29084]} .
ثم قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن هشام الدَّسْتُوَائي ، حدثنا القاسم بن أبي بَزَّة قال : كانت امرأة فرعون تسأل : من غلب ؟ فيقال : غلب موسى وهارون . فتقول : آمنت برب موسى وهارون ، فأرسل إليها فرعون فقالت : انظروا أعظم صخرة تجدونها ، فإن مضت على قولها فألقوها عليها ، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته ، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة ، فمضت على قولها ، وانتزع روحها ، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح{[29085]} .
فقولها : { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار . وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع ، { وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي : خلصني منه ، فإني أبرأ [ إليك ]{[29086]} من عمله ، { وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم ، رضي الله عنها .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : كان إيمانُ امرأة فرعونَ من قبل إيمان امرأة خازن فرعون ، وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون ، فوقع المشط من يدها ، فقالت تعس من كفر بالله ؟ فقالت لها ابنة فرعون : ولك رب غير أبي ؟ قالت : ربي ورب أبيك ورب كل شيء اللهُ . فلطمتها بنتُ فرعونَ وضربتها ، وأخبرت أباها ، فأرسل إليها فرعون فقال : تعبدين ربا غيري ؟ قالت : نعم ، ربي وربك ورب كل شيء الله . وإياه أعبد فعذبها فرعون وأوتد لها أوتادًا فشد رجليها ويديها وأرسل عليها الحيات ، وكانت كذلك ، فأتى عليها يومًا فقال لها : ما أنت منتهية ؟ فقالت له : ربي وربك وربُ كل شيء الله . فقال لها : إني ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي . فقالت له : اقض ما أنت قاض . فذبح ابنها في فيها ، وإن روح ابنها بشرها ، فقال لها : أبشري يا أمه ، فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا . فصبرت ثم أتى [ عليها ]{[29087]} فرعون يومًا آخر فقال لها مثل ذلك ، فقالت له ، مثل ذلك ، فذبح ابنها الآخر في فيها ، فبشرها روحه أيضًا ، وقال لها . اصبري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا . قال : وسمعت امرأة فرعون كلامَ روح ابنها الأكبر ثم الأصغر ، فآمنت امرأةُ فرعونَ ، وقبض الله روح امرأة خازن فرعون ، وكشف الغطاء عن ثوبها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون حتى رأت فازدادت إيمانًا ويقينًا وتصديقًا ، فاطَّلع فرعون على إيمانها ، فقال للملأ ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟ فأثنوا عليها ، فقال لهم : إنها تعبد غيري . فقالوا له : اقتلها . فأوتد لها أوتادًا فشد يديها ورجليها ، فدعت آسية ربها فقالت : { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فوافق ذلك أن حضرها ، فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة ، فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها ، إنا نعذبها وهي تضحك ، فقبض الله روحها ، رضي الله عنها{[29088]} .
{ امرأة فرعون } اسمها آسية وقولها : { وعمله } معناه وكفره ، وما هو عليه من الضلالة ، وهذا قول كافة المفسرين ، وقال جمهور من المفسرين : معناه من ظلمه وعقابه وتعذيبه لي ، وروي في هذا أن فرعون اتصل به إيمانها بموسى ، وأنها تحب أن يغلب ، فبعث إليها قوماً ، وقال : إن رأيتم منها ذلك فابطحوها في الأرض ووتدوا يديها ورجليها وألقوا عليها أعظم حجر ، وإن لم تروا ذلك فهي امرأتي . قال ، فذهب القوم فلما أحست بالشر منهم دعت بهذه الدعوات فقبض الله روحها وصنع أولئك أمر الحجر بشخص لا روح فيه ، وروي في قصصها غير هذا مما يطول ذكره ، فاختصره لعدم صحته . وقال آخرون في كتاب النقاش : { وعمله } كناية عن الوطء والمضاجعة . وهذا ضعيف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.