ثم أشار - سبحانه - إلى الفائدة الثالثة من هذا الإِخبار ، وهى أن الأمم المغلوبة على أمرها . تستطيع أن تسترد مجدها ، متى أصلحت من شأن أنفسها ، ومتى استقامت على أمر الله - تعالى - فقال - سبحانه - : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } .
ففى هذه الآية الكريمة تذكير لبنى إسرائيل بجملة من نعم الله عليهم ، بعد أن أصابهم ما أصابهم من أعدائهم .
أما النعمة الأولى فقد عبر عنها - سبحانه - بقوله : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } .
والكَرَّة : المرة من الشئ : وأصلها من الكَرِّ وهو الرجوع ، مصدر كريكر - من باب قتل - ، يقال : كرَّ الفارس كَرًّا ، إذا فر للجولان ثم عاد للقتال .
والمراد بالكرة هنا : الدولة والغلبة على سبيل المجاز .
أى : ثم أعدنا لكم - يابنى إسرائيل - الدولة والغلبة علىأعدائكم الذين قهروكم وأذلوكم ، بعد أن أحسنتم العمل ، ورجعتم إلى الله - تعالى - واتبعتم ماجاءكم به رسلكم .
والتعبير بثم لإِفادة الفرق الشاسع بين ما كانوا فيه من ذل وهوان ، وما أفاءه الله عليهم بعد ذلك من نصر وظفر .
قال أبو حيان : وجعل - سبحانه - { رددنا } موضع نرد - إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد - لأنه لما كان وعد الله فى غاية الثقة فى كونه سيقع ، عبر عن المستقبل بالماضى .
وأما النعمة الثانية فقد عبر عنها - سبحانه - بقوله : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } .
أى : لم نكتف بأن جعلنا النصر لكم على أعدائكم ، بل فضلا عن ذلك ، أمددناكم بالكثير من الأموال والأولاد ، بعد أن نهب أعداؤكم أموالكم ، وقتلوا الكثيرين من أبنائكم .
وأما النعمة الثالثة فتتجلى فى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } .
والنفير : من ينفر مع الرجل من قومه لنصرته ومؤازرته ، وهو منصوب على التمييز . والمفضل عليه محذوف ، والتقدير : وجعلناكم أكثر عددا وقوة من أعدائكم الذين جاسوا خلال دياركم . .
فمن الواجب عليكم أن تقدروا هذه النعم ، وأن تحسنوا الاستفادة منها ، بأن تشكروا الله - تعالى - وتخلصوا له العبادة والطاعة ، فقد نصركم بعد هزيمتكم ، وأغناكم بعد فقركم ، وكثّركم بعد قتلكم .
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي : أولى الإفسادتين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : سلطنا عليكم جندًا من خلقنا أولي بأس شديد ، أي : قوة وعدة وسلطة{[17232]} شديدة { فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } أي : تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم ، أي : بينها ووسطها ، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا { وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا }
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم : من هم ؟ فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجَزَريّ وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك . وقتل داود جالوت ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا }وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده . وعنه أيضًا ، وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل .
وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال ، إلى أن ملك البلاد ، وأنه كان فقيرًا مقعدًا ضعيفًا يستعطي الناس ويستطعمهم ، ثم آل به الحال إلى ما آل ، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس ، فقتل بها خلقًا كثيرًا من بني إسرائيل .
وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولا{[17232]} وهو حديث موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث ! والعجب كل العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره ! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي ، رحمه الله ، بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب .
وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها ؛ لأن منها ما هو موضوع ، من وضع [ بعض ]{[2]} زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا ، ونحن في غُنْيَة عنها ، ولله الحمد . وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم . وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بَيْضَتَهم ، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم ، جزاء وفاقًا ، وما ربك بظلام للعبيد ؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء .
وقد روى ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بُختنَصَّر على الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كِبًا ، فسألهم : ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر . قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم ، فسكن{[3]} .
وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور ، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه خلقًا منهم أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها . ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه ، لجاز كتابته وروايته ، والله أعلم .
{ ثم رددنا لكم الكرّة } أي الدولة والغلبة . { عليهم } على الذين بعثوا عليكم ، وذلك بأن ألقى الله في قلوب بهمن بن اسفنديار لما ورث الملك من جده كشتاسف بن لهراسف شفقة عليهم ، فرد أسراهم إلى الشام وملك دانيال عليهم فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، أو بأن سلط الله داود عليه الصلاة والسلام على جالوت فقتله { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } مما كنتم ، والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو .
وقوله { ثم رددنا لكم الكرة } ، الآية عبارة عما قاله الله لبني إسرائيل في التوراة وجعل { رددنا } موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي ، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى لما وصفنا ، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه ، وحسنت حالهم برهة من الدهر ، وأعطاهم الله الأموال والأولاد ، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس ، قال الطبري معناه وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم ، قال قتادة : كانوا { أكثر نفيراً } في زمن داود عليه السلام ، و «نفير » يحتمل أن يكون جمع نفر ككلب وكليب ، وعبد وعبيد ، ويحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل أي وجعلناكم أكثر نافراً .
قال القاضي أبو محمد : وعندي أن النفر اسم لا جمع الذي نفر سمي بالمصدر ، وقد قال تبع الحميري : [ المتقارب ] .
فأكرم بقحطان من والد . . . وحمير أكرم بقوم نفيرا{[7476]}
وقالوا : لا في العير ولا في النفير{[7477]} ، يريدون جمع قريش الخارج من مكة لا بإذن ،