اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا} (6)

قوله تعالى : { الكرة } : مفعول " رَدَدْنَا " وهي في الأصل مصدر كرَّ يكُرُّ ، أي : رجع ، ثم يعبَّر بها عن الدَّولةِ والقهر .

قوله : " عَليْهِم " يجوز تعلُّقه ب " رَدَدْنَا " ، أو بنفس الكرَّة ؛ لأنه يقال : كرَّ عليه ، فتتعدَّى ب " عَلَى " ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " الكرَّة " .

قوله : " نَفِيراً " منصوبٌ على التمييز ، وفيه أوجهٌ :

أحدها : أنه فعيلٌ بمعنى فاعل ، أي : أكثر نافراً ، أي : من يَنْفِرُ معكم .

الثاني : أنه جمع نفرٍ ؛ نحو : عَبْدٍ وعبيدٍ ، قاله الزجاج{[20209]} ؛ وهم الجماعة الصَّائرُون إلى الأعداء .

الثالث : أنه مصدر ، أيك أكثر خروجاً إلى الغزو ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]

فَأكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والِدٍ *** وحِمْيَرَ أكْرِمْ بقَوْمٍ نَفِيرَا{[20210]}

والمفضل عليه محذوفٌ ، فقدره بعضهم : أكثر نفيراً من أعدائكم ، وقدَّره الزمخشريُّ : أكثر نفيراً ممَّا كنتم .

فصل في معنى الآية

معنى الآية : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } يعني أوَّل المرَّتين .

قال قتادة : " إفسادهم في المرَّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم " . {[20211]}

وقال ابن إسحاق : " إفسادهم في المرَّة الأولى قتل شعيا في الشجرة ، وارتكابهم المعاصي " {[20212]} .

{ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } .

قال قتادة : " يعني جالوت وجنوده ، وهو الذي قتلهُ داود ، فذاك هو عودُ الكرَّة " {[20213]} .

وقال سعيد بن جبيرٍ : " سنحاريب من أرض نينوى " {[20214]} وقال ابن إسحاق : " بُخْتَنصَّر البابليّ وأصحابه " وهو الأظهر ، فقتل منهم أربعين ألفاً ممَّن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقيَّة إلى أرضه ، فبقوا هناك في الذلِّ إلى أن قيَّض الله ملكاً آخر من أهل بابل ، واتَّفق أن تزوَّج بامرأةٍ من بني إسرائيل ، فطلبت تلك المرأةُ من ذلك الملك أن يردَّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس ، ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا ، وهو قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ }{[20215]} .

وقال آخرون : يعني بقوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } هو أنه تعالى ألقى الرُّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم ، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس ، فقصدوهم ، وبالغوا في قتلهم ، وإفنائهم ، وإهلاكهم .

واعلم أنه لا يتعلق كثير غرضٍ في معرفة الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لمَّا أكثروا من المعاصي ، سلَّط الله عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم .

فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر

احتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القضاء والقدر من وجهين :

الأول{[20216]} : أنه تعالى قال : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ } ، وهذا القضاءُ أقلُّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم ، فثبت أنَّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً وجزماً ، حتماً ، لا يقبل النَّسخ ؛ لأنَّ القضاء معناه الحكم الجزم ، ثم إنه الله تعالى أكَّد القضاء بقوله : { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } .

فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وانقلاب حكمه الجازم باطلاً ، وانقلاب علمه الحقِّ جهلاً ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً ، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً ، لا يقبل النَّسخ والرفع ، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه ، ولعنوا على فعله ؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه .

الثاني : قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر ، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل ، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة .

ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله : ثم { بَعَثْنَا } وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى . أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين{[20217]} :

الأول : قوله : " بَعَثْنَا " هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل ؛ لما ظهر فيهم من الفساد ، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ .

والثاني : أنَّ المراد : خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل ، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم ، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع .

والجواب الأوَّل ضعيفٌ ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس ، وإحراق التوراة ، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال : إنهم فعلوا ذلك بأمر الله .

والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال ، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع ، فالأول فعلٌ ، والثاني تركٌ ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر ، وإنه لا يجوز ، فثبت صحَّة ما ذكرناه .


[20209]:ينظر: معاني الزجاج 3/228.
[20210]:البيت لتبع الحميري ينظر: البحر المحيط 6/9، روح المعاني 5/18 الدر المصون 4/372.
[20211]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/106).
[20212]:ينظر: المصدر السابق.
[20213]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/27) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/299) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. وذكره البغوي في "تفسيره" (3/106).
[20214]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/27) وذكره البغوي في "تفسيره" (3/106).
[20215]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/106) والرازي في "تفسيره" (20/124).
[20216]:ينظر: الرازي 20/125.
[20217]:ينظر: الفخر الرازي 20/126.