مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا} (6)

وقوله : { ثم رددنا لكم الكرة } هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة .

والقول الثالث : إن قوله : { بعثنا عليكم عبادا لنا } هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم .

واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم .

ثم قال تعالى : { فجاسوا خلال الديار } قال الليث : الجوس والجوسان التردد خلال الديار ، والبيوت في الفساد ، والخلال هو الانفراج بين الشيئين ، والديار ديار بيت المقدس ، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس : فتشوا وقال أبو عبيدة : طلبوا من فيها . وقال ابن قتيبة : عاثوا وأفسدوا . وقال الزجاج : طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه . قال الواحدي : الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه .

ثم قال تعالى : { وكان وعدا مفعولا } أي كان قضاء جزما حتما لا يقبل النقض والنسخ ، ثم قال تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة } أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم : { وجعلناكم أكثر نفيرا } النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه ، والنفير والنافر واحد ، كالقدير والقادر ، وذكرنا معنى نفر عند قوله : { فلولا نفر من كل فرقة } وقوله : { انفروا خفافا } .

المسألة الثانية ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا } وهذا القضاء أقل احتمالاته : الحكم الجزم ، والخبر الحتم ، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبرا جزما لا يقبل النسخ ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه . ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال : { وكان وعدا مفعولا } .

إذا ثبت هذا فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذبا ، وانقلاب حكمه الجازم باطلا ، وانقلاب علمه الحق جهلا ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالا ، فكان إقدامهم عليه واجبا ضروريا لا يقبل النسخ والرفع ، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله ، وذلك يدل على قولنا : إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه ، وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله ، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية .

الوجه الثاني : في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى : { بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد } والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر ، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل ، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملا على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة . ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله : { ثم بعثنا عليكم } وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى .

أجاب الجبائي عنه من وجهين : الأول : المراد من { بعثنا عليكم } هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد ، فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر . والثاني : أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل ، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم . وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع .

واعلم أن الجواب الأول ضعيف ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى . والجواب الثاني أيضا ضعيف ، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب ، وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع ، والأول فعل ، والثاني ترك ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز ، فثبت صحة ما ذكرناه ، والله أعلم .