وبعد هذا الأمر المؤكد بالتقوى ، جاء النهى عن التشبه بمن خلت قلوبهم من التقوى ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ . . } .
أى : تمسكوا - أيها المؤمنون - بتقوى الله - تعالى - ومراقبته والبعد عن كل مالا يرضيه . واحذروا أن تكونوا كأولئك الذين تركوا التكاليف التى كلفهم الله - تعالى - بها ، فتركهم - سبحانه - إلى أنفسهم ، بأن جعلهم ناسين لها ، فلم يسمعوا إلى ما ينفعها ، بل سعوا فيما يضرها ويرديها .
فالمراد بالنسيان هنا : الترك والإهمال ، والكلام على حذف مضاف . أى : نسوا حقوق الله - تعالى - وما أوجب عليهم من تكاليف .
والفاء فى قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ . . } .
أى : تمسكوا - أيها المؤمنون - بتقوى الله - تعالى - ومراقبته والبعد عن كل مالا يرضيه . واحذروا أن تكونوا كأولئك الذين تركوا التكاليف التى كلهم الله - تعالى - بها ، فتركهم - سبحانه - إلى أنفسهم ، بأن جعلهم ناسين لها ، فلم يسعوا إلى ما ينفعها ، بل سعوا فيما يضرها ويرديها .
فالمراد بالنسيان هنا : الترك والإهمال ، والكلام على حذف مضاف . أى : نسوا حقوق الله - تعالى - وما أوجب عليهم من تكاليف .
والفاء فى قوله : { فَأَنسَاهُمْ } للسببية ، أى : أن نسيانهم لما يجب عليهم نحو أنفسهم من تهذيب وتأديب . . . كان سببه نسيانهم لا يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وخشيته .
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم فقال : { أولئك هُمُ الفاسقون } أى : أولئك الذين تركوا ما يجب عليهم نحو خالقهم ونحو أنفسهم ، هم الفاسقون عن أمره ، الخارجون على شريعته ودينه ، الخالدون يوم القيامة فى العذاب المهين .
وقال{[28612]} { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أي : لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم ، فإن الجزاء من جنس العمل ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الخارجون عن طاعة الله ، الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معادهم ، كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا [ أبو ] {[28613]} المغيرة ، حدثنا حَريز بن عثمان ، عن نعيم بن نَمحة قال : كان في خطبة أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله ، عز وجل ، فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله ، عز وجل . إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم ، فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أين من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، [ وائتضحوا بسنائه وبيانه ] {[28614]} إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [ الانبياء : 90 ] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم{[28615]} .
هذا إسناد جيد ، ورجاله كلهم ثقات ، وشيخ حَريز بن عثمان ، وهو نعيم بن نمحة ، لا أعرفه بنفي ولا إثبات ، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حَريز كلهم ثقات . وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تكونوا كالذين تركوا أداء حقّ الله الذي أوجبه عليهم فأنْساهُمْ أنْفُسَهُمْ يقول : فأنساهم الله حظوظ أنفسهم من الخيرات . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان { نَسُوا اللّهَ فأنْساهُمْ أنْفُسَهُمْ }قال : نَسُوا حقّ الله ، فأنساهم أنفسهم قال : حظّ أنفسهم .
وقوله : { أُولَئكَ هُمُ الفاسقون } يقول جل ثناؤه : هؤلاء الذين نسوا الله ، هم الفاسقون ، يعني الخارجون من طاعة الله إلى معصيته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظ المؤمنين ألا يتركوا أمره، ولا يكونوا بمنزلة أهل الكتاب فقال: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} يعني تركوا أمر الله {فأنساهم أنفسهم} أن يقدموا لها خيرا {أولئك هم الفاسقون} يعني العاصين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا تكونوا كالذين تركوا أداء حقّ الله الذي أوجبه عليهم،" فأنْساهُمْ أنْفُسَهُمْ "يقول: فأنساهم الله حظوظ أنفسهم من الخيرات.
{أُولَئكَ هُمُ الفاسقون}: هؤلاء الذين نسوا الله، هم الفاسقون، يعني الخارجون من طاعة الله إلى معصيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعض المفسرين: {نسوا الله} أي نسوا العمل لله، والنسيان، هو الترك.
{فأنساهم أنفسهم} أي خذلهم الله تعالى بما نسوا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل: نسوا الله بترك ذكره والشكر والتعظيم، فأنساهم أنفسهم بالعذاب الذي نسي به بعضهم بعضا...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
تركوا أمر الله، فتركهم من نظره ورحمته.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
تنبيها على تلازم الأمرين، وأن نسيان أحدهما مع نسيان الآخر. (ميزان العمل: 200).
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ويعطي لفظ هذه الآية، أن من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربه تعالى، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اعرف نفسك تعرف ربك، وروي عنه أنه قال أيضاً: من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما هز إلى تقواه تارة بالخوف وأخرى بالحياء تأكيداً لها، وعلل ذلك بما له شعبة من التحذير، وكان الإنسان لما له من النسيان أحوج إلى التحذير، قال مؤكداً لشعبته وإيضاحاً لأن التقوى الثانية لمحاسبة النفس في تصفية العمل: {ولا تكونوا} أيها المحتاجون إلى التحذير، وهم الذين آمنوا {كالذين نسوا الله} أي أعرضوا عن أوامره ونواهيه وتركوها ترك الناسين لمن برزت عنه، مع ما له من صفات الجلال والإكرام، لما استغواهم به من أمره الشيطان حتى أبعدهم جداً عن العمران {فأنساهم} أي فتسبب عن ذلك أنه أنساهم بما له من الإحاطة بالظواهر والبواطن {أنفسهم} فلم يقدموا لها ما ينفعها...
ولما كانت ثمرة ذلك أنهم أضاعوها -أي التقوى- فهلكوا قال: {أولئك} أي البعيدون من كل خير {هم} أي خاصة دون غيرهم {الفاسقون} أي العريقون في المروق من دائرة الدين.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلاَ تَكُونُوا كالذين نَسُوا الله} أي ما قدرُوه حقَّ قدرِهِ.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{فأنساهم} الله تعالى بسبب ذلك {أَنفُسِهِمْ} أي أراهم جل جلاله يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم أمراً هائلاً وعذاباً أليماً.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال ابن القيم في (دار السعادة): تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفا عظيما وهو أن من نسي ربه، أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلا مهملا، بمنزلة الأنعام السائبة، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه لبقائها على هداها الذي أعطاها إياه خالقها، وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه، فأنساه نفسه وصفاته وما تكمل به وتزكو به، وتسعد به في معاشها ومعادها.
فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم للجهل لنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به. فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته. انتهى...
{أولئك هم الفاسقون} أي الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وخانوا وغدروا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم، فخسروا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى. وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى، وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدخر لها زادا للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجيء في النهي بنهيهم عن حالة قوم تحققت فيهم هذه الصلة ليكون النهي عن إضاعة التقوى مصوراً في صورة محسوسة هي صورة قوم تحققت فيهم تلك الصلة وهم الذين أعرضوا عن التقوى.
وهذا الإِعراض مراتب؛ قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود، وإلى النفاق الذي تلبس به فريق ممن أظهروا الإِسلام في أول سنيّ الهجرة.
وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة؛ فيحتمل أن يُراد ب« الذين نسوا الله» المنافقين، لأنهم كانوا مشركين ولم يهتدوا للتوحيد بهدي الإِسلام، فعبر عن النفاق بنسيان الله، لأنه جهل بصفات الله من التوحيد والكمال. وعبّر عنهم بالفاسقين قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} في سورة [براءة: 67]، فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك.
ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود، لأنهم أضاعوا دينهم ولم يقبلوا رسالة عيسى عليه السلام، وكفروا بحمد. فالمعنى: نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به، قال تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم} [البقرة: 40 -41]. وقد أطلق نسيانهم على الترك والإِعراض عن عمد أي فنسوا دلائل توحيد الله، ودلائلَ صفاته، ودلائلَ صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم كتابه.
ومعنى « أنساهم أنفسهم» أن الله لم يخلق في مداركهم التفطن لفهم الهدي الإِسلامي فيعملوا بما ينجيهم من عذاب الآخرة ولما فيه صَلاحهم في الدنيا، إذ خذلهم بذبذبة آرائهم؛ فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يخرجونهم من ديارهم، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد، وبين المسلمين بالاحتقار واللعن.
وأشعر فاء التسبب بأن إِنسَاء الله إياهم أنفسهم، مسبب على نسيانهم دين الله، أي لمَّا أعرضوا عن الهدى بكسبهم وإرادتهم، عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم. وإظهار اسم الجلالة في قوله تعالى: {كالذين نسوا الله} دون أن يقال: نسُوهُ لاستفظاع هذا النسيان، فعلق باسم الله الذي خلقهم وأرشدهم.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله: {أولئك هم الفاسقون} للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق، حتى كأنّ فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم. واسم الإِشارة للتشهير بهم بهذا الوصف. والفسق: الخروج من المكان الموضوع للشيء، فهو صفة ذم غالباً، لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء... فالفاسقون هم الآتون بفواحش السيئات ومساوئ الأعمال وأعظمها الإِشراك. وجملة {أولئك هم الفاسقون} مستأنفة...كأن السامع سأل: ماذا كان أثر إنساء الله إياهم أنفسهم؟ فأجيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة حتى حقّ عليهم أن يقال: إنه لا فسق بعد فسقهم.
قوله سبحانه: {ولا تَكُونُوا كالذينَ نَسُوا فأنسَاهُم أنفُسَهُمْ} هناك أمر بتقوى الله وتطبيق منهجه، وهنا نهى عن نسيان الله، يعني: حين تُطبّق منهج الله ينبغي ألاّ يغيب اللهُ عن بالك أبداً لأنه ربُّك وإلهك الذي تعمل له.
ونلاحظ هنا أن الآية الكريمة لم تقُلْ لنا لا تنسوا الله، وإنما {لا تَكُونُوا كالذينَ نسُوا اللهَ..} فكأن نسيان الله أمر غير متوقّع أن يحدث من الذين آمنوا.
والنسيان أن تكون عندك معلومة ثم تنصرف عنها بمشاغل أخرى، أو تغفل عنها حتى تنساها، لأن العقل فيه بؤرة الشعور وحاشية الشعور، فالمعلومة تدخل في بؤرة الشعور وطالما هي في بؤرة الشعور تتذكرها.
فإذا انتقلت إلى حاشية الشعور تنساها وتحتاج مَنْ يُذكّرك بها لتعيدها إلى بؤرة الشعور مرة أخرى، وإلا لو ظلّ كل شيء في بؤرة الشعور لما التفت الإنسان إلى شيء آخر.
قال تعالى: {ما جَعَلَ اللهُ لرَجُلٍ من قَلْبين في جوفِه.. 4} [الأحزاب] ومن نعم الله عليك أنك تستطيع أنْ تستدعي المعلومة من حاشية الشعور حينما تحاول أنْ تتذكرها.
لكن كيف كان الله معلوماً لهم ثم نسُوا ذكره تعالى؟ قالوا: الله عز وجل معلومٌ لكلّ الخلْق منذ أنْ كانوا جميعاً في مرحلة الذر وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام، ومنذ أنْ أخذ الله عليهم العهد:
{وإذْ أخَذَ ربُّك من بَني آدَمَ من ظُهُورهم ذريّتِهُم وأشْهدهم عَلى أنفسهم ألستُ بربكم قالُوا بلى شهدنا.. 172} [الأعراف] فالحق سبحانه يخاطب فيك هذه الذرة التي أخذتها من أبيك آدم، لأنه سبحانه يخاطب فيك هذه الذرة التي أخذتها من أبيك آدم، لأنه سبحانه القادر وحده على ذلك، فيخاطب الذرة كما خاطب الأرض وكما خاطب النحل.
والحق سبحانه وتعالى أخذ علينا هذا العهد ليكون حجة علينا إذا غفلنا عن ذكره تعالى أو نسيناه {أن تقُولُوا يَوْمَ القيَامَةِ إنّا كنَّا عنْ هذا غافلين 172 أوْ تَقُولوا إنَّمَا أشْركَ آباؤُنَا من قَبْلُ وكنّا ذُريّة منْ بعدهمْ أفتُهلِكُنا بما فعل المُبْطلُون 173} [الأعراف]
كأنه سبحانه يقول لك: إياك أنْ تقول هذا القول، إياك أنْ تصيبك هذه الغفلة التي تُنسيك ذكر الله، لأنه لا عذر لك فيه، لأنه تعالى أخذ العهد علينا ثم توالت رسُله وتتابعت تُذكّرنا بهذا العهد.
فإذا ما حدث من الإنسان غفلة قامت هذه الذرة بدور المناعة فتذكّره وترده إلى الله، قالوا: هذه الذرة هي النفس اللوامة في الإنسان، فإذا ضعفت فلم تردع صاحبها فاستشرى في المعصية يردعه المجتمع.
فإذا لم يوجد في المجتمع الرادع وكان المجتمع أيضاً فاسداً قلنا: تتدخل السماء برسول جديد.
إلى أنْ جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجعل الله أمته خير أمة أخرجت للناس لأنها تولّتْ مهمة الأنبياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {كُنتُمْ خيْرَ أمّةٍ أُخْرِجت للنّاسِ تأْمُرُون بالمعروف وتنْهون عن المنكر.. 110} [آل عمران] لذلك جعلهم الله شهداء على غيرهم من الأمم {لتكُونُوا شُهداء على النّاسِ ويكُونَ الرّسُولُ عليكُم شهيداً.. 143} [البقرة]
وبهذا تحملت هذه الأمة مهمة الرسل وضمنا أن مجتمعنا لا يخلوا أبداً من عناصر الخير وحاملي مشاعل الهداية، ومهما انطمست الحقائق وأظلمت الصورة لانعدم وجود نموذج للخير وللهداية يردّ الناس إلى الجادة.
ومعنى {فأنساهُم أنفسهم..} لأنهم نسوا الله ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله وصرفتهم الدنيا وتواردت عليهم الغفلة فنسُوا حتى أنفسهم أي نسوا مصدر الخير لهم، فكأنهم نسوا أنفسهم حينما حرموها من مصدر خيرها.
والإنسان حينما ينفصل عن ربه وخالقه يعيش في ضنك مهما نال من نعيم الدنيا وزخرفها، والمؤمن الموصول بربه يعيش سعيداً وإنْ كان لا يجد قوت يومه...
وإذا حدد الإنسان غايته هَانَ عليه الطريق وسَهُل عليه الوصول، وما اختلف الناسُ هذا الاختلاف إلا باختلاف غاياتهم في الحياة، فتحديد الغاية أشقّ من الوصول إليها...
والغاية الحقيقية هي الهدف الذي ليس بعده بعد، ولو سلسلتَ غايات العالم كله ستجد أنها تنتهي عند الآخرة حيث الفوز والفلاح والنعيم الباقي الذي لا ينفد.
ويقول الحق سبحانه: {أولَئكَ هُمُ الفَاسِقُون} ويقال: فسقت الرطبة أي بعدت القشرة عن الثمرة، فعندما تكون الثمرة أو البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالثمرة بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها.
فإذا أصبحت الثمرة أو البلحة رطباً تسود قشرتها وتبتعد عن الثمرة بحيث تستطيع أن تنزعها عنها بسهولة.
هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله، ينسلخ عنه بسهولة ويُسر لأنه غير ملتصق به، وعندما تبتعد عن منهج الله فإنك لا ترتبط بأوامره ونواهيه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
نسوا الله {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} لا من موقع الإرادة المباشرة في ذلك، بل من موقع القوانين الإلهية الكامنة في طبيعة الواقع الإنساني، فإنّ الإنسان إذا نسي ربه، فإنه يبتعد بذلك عن القاعدة الثابتة التي يعرف فيها موقعه في الكون، ودوره في حركته، من جهة ما يصلحه، أو ما يفسده، ما يجعله يتحسّس الواقع من خلال الأشياء الطارئة عليه من خارج ذاته، أو من خلال الغرائز المثيرة التي تشغله عن مصيره، وبذلك ينسى نفسه من حيث هي جزءٌ من الحركة الكونية المسؤولة، فيتخبط في متاهات الأهواء والشهوات، وفي ضباب الأوهام والخيالات، على أساس أن الحقيقة الإلهية في حضورها في الوجدان، هي التي تعطي الحقيقة الإنسانية حضورها في حركة الحياة، بسبب طبيعة الترابط بين ذكر الله وبين الانضباط في خط... سلامة المصير.
{أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} بما يمثّله الفسق من تجاوز الحدود المفروضة من الله ومن انحرافٍ عن الخط المستقيم، ومن خروجٍ عن طاعة الله. وإذا كانت مسألة الجنة والنار هي مسألة القرب من الله بالاستقامة على خط الطاعة، والابتعاد عن خط المعصية، فإن من الطبيعي أن يكون الغافلون عن ذكره الذين يتحركون في خط الشهوات هم أصحاب النار، لأنهم يبتعدون عن الله بقدر غفلتهم عنه، كما أن من الطبيعي أن يكون الذاكرون لله بقلوبهم وألسنتهم ومواقع عملهم وسلامة مواقفهم هم أصحاب الجنة، لأنهم يقتربون من الله، بقدر انفتاحهم عليه، وخوفهم من مقامه، ووعيهم لمسؤوليتهم أمامه.
وإذا كانت المسألة بهذا الحجم وبهذا المستوى، فإن من المفروض للباحثين عن قضية المصير في مستقبل الآخرة، أن يحسنوا عملية الاختيار في العمل والمواقف، ليحسنوا عملية الاختيار في الغاية والمصير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأساساً فإنّ جوهر التقوى شيئان: ذكر الله تعالى، وذلك بالتوجّه والإنشاد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كلّ مكان وفي كلّ الأحوال، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها في صحيفة أعمالنا.. ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع. والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ القرآن الكريم يعلن هنا بصراحة أنّ الغفلة عن الله تسبّب الغفلة عن الذات، ودليل ذلك واضح أيضاً، لأنّ نسيان الله يؤدّي من جهة إلى انغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية، وينسى خالقه، وبالتالي يغفل عن ادخار ما ينبغي له في يوم القيامة. ومن جهة أخرى فانّ نسيان الله ونسيان صفاته المقدّسة وأنّه سبحانه هو الوجود المطلق والعالم اللامتناهي، والغنى اللامحدود.. وكلّ ما سواه مرتبط به، ومحتاج لذاته المقدّسة.. كلّ ذلك يسبّب أن يتصوّر نفسه مستقلا ومستغنياً عن المبدأ. وأساساً فإنّ النسيان بحدّ ذاته من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات. وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله، ولهذا يقول سبحانه: {أولئك هم الفاسقون}.
وممّا يجدر بيانه أنّ الآية لم تقل «لا تنسوا الله»، بل وردت بعبارة {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي كالأشخاص الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وهي في الحقيقة بيان مصداق حسّي وواضح يمكن للإنسان أن يرى فيه عاقبة نسيان الله تعالى.