التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ} (6)

ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان قدرته ورحمته فقال : { إِنَّ في اختلاف الليل والنهار } طولا وقصرا ، وحرا وبردا ، وتعاقبا دقيقا لا يسبق أحدهما معه الآخر { وَمَا خَلَقَ الله في السماوات والأرض } من أنواع الإنس والجن والحيوان والنبات والنجوم وغير ذلك من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى . .

إن في كل ذلك الذي خلقه { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } أى : لدلائل عظيمة كثيرة دالة على قدرة الله ورحمته ووحدانيته ، لقوم يتقون الله - تعالى - فيحذرون عقابه ، ويرجون رحمته .

وخص - سبحانه - المتقين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بنتائج التدبر في هذه الدلائل .

وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد سلك أنجع الوسائل في مخاطبة الفطرة البشرية ، حيث لفت الأنظار إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من مخلوقات شاهدة محسوسة ، تدل على وحدانية الله ، وقدرته النافذة ، ورحمته السابغة بعباده .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ} (6)

1

ومن خلق السماوات والأرض ، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار ، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب :

( إن في اختلاف الليل والنهار ، وما خلق الله في السماوات والأرض . . لآيات لقوم يتقون )

واختلاف الليل والنهار تعاقبهما . ويشمل كذلك اختلافهما طولا وقصرا . وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس . إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس ، وينتفض فيها الوجدان للمطالع والمغارب ، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون ، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب . وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية ، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الاستقبال والاستجابة . .

( وما خلق الله في السماوات والأرض ) . .

ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب ( ما خلق الله في السماوات والأرض ) ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس ، والهيئات والأحوال ، والأوضاع والأشكال . لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها ، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش . . ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب ، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة ، ثم يتركه ليتملاه . . إن في ذلك كله :

( لآيات لقوم يتقون ) . .

تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص . وجدان التقوى . الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة ، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع .

هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية ، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون ؛ والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة ، وإيحاءات مسموعة !

ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة ؛ لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة ؛ ولا تؤدي إلى بناء حياة ؛ وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء !

ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني - بأسلوبه هذا - هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعا - وهذه ميزتها - فإن وجود هذا الكون ذاته أولا . ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة ؛ وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر - حتى قبل أن يعرفها البشر - ثانيا . . إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة .

والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلا معقولا . ولا يزيدون على أن يقولوا : إن الكون وجد هكذا بقوانينه ؛ وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل ؛ ووجوده يتضمن قوانينه ! فإن كان هذا كلاما مفهوما - أو معقولا - فذاك !

ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا ؛ لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله ! ثم أصبح يقال هنا وهناك ، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله . ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله . ثم يماري في ربوبيته ، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة . فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته . ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم ؛ فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع . . فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء !

ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى " إسلامية " يروج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم " العلم " و " العلمية " ! فيقال : إن " الغيبية " لا مكان لها في الأنظمة " العلمية " . . ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية . . ! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب . لا يخشون الله إنما يخشون الناس ، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال !

وما تزال دلالة وجود الكون ذاته ، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة . تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك . والفطرة البشرية بجملتها - قلبا وعقلا وحسا ووجدانا - تواجه هذه الدلالة ، وتستجيب لها . وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها . يخاطبها من أقصر طريق ، ومن أوسع طريق وأعمق طريق ! ! !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ} (6)

استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير . وهو استدلال بأحوال الضوء والظلمة وتعاقب الليل والنهار وفي ذلك عبرة عظيمة . وهو بما فيه من عطف قوله : { وما خلق الله في السماوات والأرض } أعم من الدليل الأول لشموله ما هو أكثر من خلق الشمس والقمر ومن خلق الليل والنهار ومن كل ما في الأرض والسماء مما تبلغ إليه معرفة الناس في مختلف العصور وعلى تفاوت مقادير الاستدلال من عقولهم .

وتأكيد هذا الاستدلال بحرف { إنَّ } لأجل تنزيل المخاطبين به الذين لم يهتدوا بتلك الدلائل إلى التوحيد منزلة من ينكر أن في ذلك آيات على الوحدانية بعدم جريهم على موجب العلم .

وتقدم القول في شبيهة هذه الآية وهو قوله : { إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر } الآية في سورة البقرة ( 164 ) وفي خواتم سورة آل عمران .

وشمل قوله : { وما خلق الله } الأجسام والأحوال كلها .

وجعلت الآيات هنا لقوم يتقون وفي آية البقرة ( 164 ) { لقوم يعقلون } وفي آية آل عمران ( 190 ) لأولي الألباب لأن السياق هنا تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بالآيات ليعلموا أن بعدهم عن التقوى هو سبب حرمَانهم من الانتفاع بالآيات ، وأن نفعها حاصل للذين يتقون ، أي يحذرون الضلال . فالمتقون هم المتصفون باتقاء ما يوقع في الخسران فيبعثهم على تطلب أسباب النجاح فيتوجه الفكر إلى النظر والاسْتدلال بالدلائل . وقد مر تعليل ذلك عند قوله تعالى : { هُدى للمتقين } في أول البقرة ( 2 ) على أنه قد سبق قوله في الآية قبلها { نفصل الآيات لقوم يعلمون } [ يونس : 5 ] ، وأما آية البقرة وآية آل عمران فهما واردتان في سياق شامل للناس على السواء . وذكر لفظ ( قوم ) تقدم في الآية قبل هذه .